لمرتين تاريخيتين تداخلت القاهرة بالإسناد والدعم والتخطيط المشترك في إطلاق ثورتين مسلحتين، الجزائرية والفلسطينية.

الأولى، حققت هدفها في الاستقلال.. والثانية، وقعت في خديعة «أوسلو» قبل أن يواصل شعبها دفع فواتير الدم والتضحيات لنيل حقه في تقرير المصير.

حديث الرصاصة الأولى يلامس الحقائق الأساسية عند منابعها في لحظة حاسمة من الحرب على غزة.

إنه حديث المصير العربي الواحد، الذي لا ندركه ولا نعرف مكامن القوة فيه.

لم تكتسب مصر أدوارها وقيادتها للعالم العربي ولا تأكدت مكانتها على مسارح العالم الثالث من فراغ سياسات، أو بأوهام زعامة.

لكل دور أثمانه وتكاليفه. في يناير/ كانون الثاني (1965) بادرت حركة «فتح» بإطلاق الرصاصة الأولى وحاولت أن تطرح القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني لا قضية لاجئين يحتاجون إعانات وإغاثات.

بعد هزيمة (1967) تبدت ضرورات إحداث تحول جوهري في الفكر السياسي الفلسطيني. لم يكن ذلك ممكناً دون غطاء عربي قوي ومؤثر.

في أكتوبر/ تشرين الأول (1967) حضر إلى القاهرة ثلاثة من مؤسسي «فتح» ياسر عرفات وصلاح خلف وفاروق قدومي لمد الجسور معها.

حاوروا شخصيات مقربة من الرئيس جمال عبد الناصر أبرزهم الوزير كمال الدين رفعت والأستاذ محمد حسنين هيكل.

بصورة مفاجئة أبلغهم هيكل أنه سوف يصحبهم بسيارته الخاصة للقاء شخصية مهمة. كانت المفاجأة أنه عبد الناصر نفسه، الذي لخص موقفه في جملة واضحة ومحددة: «أريد أن أسمع طلقة واحدة تدوي كل يوم في الأرض المحتلة».

في تلك الأيام بأجوائها الملبدة، تبدت حسابات جديدة على الساحة الفلسطينية.

وفرت القاهرة غطاء عربياً ودولياً كاملاً لمنظمات العمل المسلح، قدمت عرفات إلى قيادة الاتحاد السوفييتي السابق، وتابعت نقل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من الخطباء إلى الفدائيين.

بقدر مماثل كان دور عبد الناصر جوهرياً في حرب تحرير الجزائر. في الثاني من يوليو/ تموز عام (1954)، قبل سبعين سنة بالضبط، أطل أحمد بن بلّة، أبرز قادة الثورة التي توشك أن تعلن، لأول مرة عبر أثير «صوت العرب».

بصوته المؤثر قدمه أحمد سعيد مؤسس «صوت العرب» بالكلمات التالية:

«أخ جزائري في حديث من العقل والقلب إلى الضمير والوجدان». لم يكن بن بلّة يتقن العربية في ذلك الوقت بأثر سياسات «الفرنسية» التي عانتها الجزائر.

كتب النص بالفرنسية. شارك في ترجمته إلى العربية أربعة رجال: محمد خيضر وحسين آية أحمد وفتحي الديب وأحمد سعيد.

أعيدت كتابته مرة أخرى بحروف لاتينية كبيرة حتى يمكنه قراءتها للجمهور العربي.

«OHADISACOM-MEN-SAWT-ALARAB-MEN-ALKAHIRA-MADINATO-ALAZHAR-ALSHARIF»

«أحدثكم من صوت العرب من القاهرة مدينة الأزهر الشريف».

على ذلك المنوال كتب بقية الخطاب «التاريخي» بكل ما يحمله الوصف من معنى وقيمة، كلحظة إطلاق للثورة الجزائرية.

كان قاسياً على مشاعر بن بلّة «أنه لا يستطيع أن يتحدث بلغة بلاده وقرآن دينه».

هكذا وصف أحمد سعيد مشاعره في مذكرات خطية لم يتسن لها أن تنشر حتى الآن.

أثناء سنوات سجن بن بلّة في باريس بعد اختطاف طائرة تقله مع أربع قيادات تاريخية أخرى علم نفسه العربية وأتقنها.

في يوليو (تموز) 1962 ألقى خطاباً آخر عبر «صوت العرب» من الجزائر المستقلة، لكن هذه المرة بلغة عربية متمكنة.

في حوارات القاهرة أبلغ بن بلّة السلطات المصرية أن الرصاصة الأولى سوف تطلق في الساعة الواحدة من صباح 30 أكتوبر(تشرين الأول) 1954.

بدا عبد الناصر متحفظاً على الحماس الزائد، الذي خطط لنحو ثمانين عملية في اليوم الأول: «يكفيني 15 أو 16 عملية بامتداد الجزائر وأن تكون ذات دوي في العاصمة حتى تلفت أسماع العالم».

لأسباب ميدانية تأجلت العمليات المسلحة، التي خطط لها أن تشمل أنحاء واسعة من الجزائر، إلى الأول من نوفمبر(تشرين الثاني).

في ذلك اليوم من عام 1954 بدأت تتوالى الأخبار من وكالة الأنباء الفرنسية عن «محاولات تخريب، تقدر خسائرها بآلاف الفرنكات».

«اندلعت الشرارة الأولى للكفاح الجزائري، الذي اعتقد الجميع أنه أمر مستحيل، ليستمر أكثر من سبع سنوات، ناضل خلالها الجزائريون بقوة وجدية ورجولة أكسبتهم احترام الرأي العام العربي والدولي على السواء».

عندما علم عبد الناصر أن دوي الانفجارات أرعب قوات الاحتلال الفرنسي تأكد أن الجزائر قد استعادت استقلالها وأكدت هويتها العربية، وأن الباقي تفاصيل.

كان التفكير الاستراتيجي المصري يربط ما بين تطلعات المصريين للاستقلال الوطني في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتطلعات العرب للهدف ذاته.

إنها وحدة المصير العربي.

هذه الفكرة - بالذات - كانت أساس الدور الإقليمي المصري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

في معركة الجزائر تأكد الدور المصري في عالمه العربي بلا ادعاء.

القاهرة تابعت أدوارها من الرصاصة الأولى في نوفمبر(تشرين الثاني) 1954 حتى استقلت الجزائر في يوليو (تموز) 1962 حاضرة في قلب التخطيط السياسي والإعلامي والعسكري شريكاً كاملاً في المعركة.

لا تكتسب الأدوار بالادعاء. هذا هو درس عبد الناصر. ولا تكتسب الحقوق بالمجان ولا يحدث استقلال دون أن يدفع ثمنه غالياً.

هذا هو درس الثورة الجزائرية، الذي تمضي المقاومة الفلسطينية على طريقه اليوم.