ذكرني اللقاء التلفزيوني مع وزير المالية أنور المضف بمقولة سقراط (بتصرف) عندما دخل عليه شخص مزهوا بمنصبه وثيابه، فطلب منه سقراط، لكي يراه أن يتكلم، فرد: لا حاجة للكلام، فأنا أشتغل «سكاتي»!
كان وزير المالية، منذ تعيينه قبل 6 أشهر، على «الصامت»، فلم يكن أحد يعرف شيئاً عن أفكاره وخططه وبرامجه لتعديل المعوج من أوضاعنا المالية، وأتت الفرصة للإجابة عن أسئلة طالما شغلت بال آلاف الأسر، لكن المقابلة زادت من شكوكنا وقلقنا على مستقبلنا.
لا أرغب في التطرق لنقاط الضعف العديدة في أداء الوزير، الذي افتقد للطلاقة والكاريزما، لأنها أمور لا يمكن الحكم من خلالها على أداء شخص ما، لكن فشل معاليه ظهر جلياً وهو يقرأ من ورقة ثلاثة أرقام خطيرة؛ إجمالي الإيرادات، إجمالي المدفوعات، وحجم العجز!! فإن كان عاجزاً عن تذكر تلك الأرقام الثلاثة، فمعنى ذلك أن وضعنا لا يسر، وقد بينت بقية المقابلة صحة تخوفات من تابعها!
* * *
سنركز، باقتضاب، على الأمور التي تشغل بال الجميع، والتي ربما لم يرغب معاليه في التطرق لها. فمن مشاكل أي مجتمع رغبة أفراده في الحصول على شيء ما، دون التضحية بأي مقابل! فنحن، مثلا، نريد زيادة إيرادات من السياحة، لكننا على غير استعداد للتخلي عن عاداتنا وتقاليدنا! ونريد الراتب السخي، لكن لا نريد العمل بعيداً عن البيت.. إلخ من أمور.
من العبث تكرار القول إن الرواتب والأجور لن تمس، ثم نردف بالقول إن الدولة ستعيد النظر في «أسعار خدماتها وسلعها»!!
فالعبرة ليست في بقاء الراتب كما هو، بل في نسبة التضخم السنوية. فإقدام الحكومة على زيادة دخلها من رفع قيمة وأجور الخدمات والأراضي وتخفيض الدعوم سيؤثر حتماً في قيمة الراتب الفعلية، وليس الرقمية!
أما زيادة الإيرادات غير النفطية فتتطلب تغييراً شاملاً في سلوك المجتمع، والإسراع في إنشاء المشاريع الترفيهية واستغلال إمكانات الدولة بطريقة جيدة، وتحويل فيلكا لمنطقة حرة، بمعنى الكلمة، وليس منتجعاً جافاً آخر كالخيران.
عجز الموازنة خلال السنوات الأربع المقبلة، فقط، سيبلغ 26 مليار دينار، وهذا لا يمكن تغطيته بغير السحب من صندوق الأجيال، أو الاقتراض، على فرض بقاء الوضع على ما هو عليه. كما يتطلب الأمر سرعة الحركة، وهذا ما نراه حتى الآن، من أصحاب البشوت والغتر المنشاة، على الرغم من توجيهات القيادة بضرورة الإسراع في إنجاز المشاريع الحيوية، والتوسع في إنعاش القطاع الخاص، وإشراكه في إنتاج الطاقة البديلة وإدارة مرافق الكهرباء والموانئ وغيرها، لزيادة الدخل غير النفطي، وتصفية شركة التموين وإلغاء الدعوم، ووقف الهدر في الإدارة الحكومية، والأهم من كل ذلك فرض الضرائب!
الضريبة بعبع يخافه الفقير ويكرهه الغني، لكنه ضروري، مادياً وأخلاقياً ومعنوياً. ففرضها يخدم أغراضًا متعددة تتجاوز مجرد زيادة إيرادات الدولة، فهي أداة لإعادة توزيع الثروة، فعن طريقها يدفع أصحاب الدخل الأعلى نسبة أكبر من دخلهم، مقارنة بغيرهم.
كما تستخدم الضرائب كأدوات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، من خلال تهدئة الاقتصاد ومنع التضخم. وعلى العكس من ذلك، فإن التخفيضات الضريبية خلال فترات الركود يمكن أن تحفز الطلب والنشاط الاقتصادي، ولها دورها في التأثير في سلوك المستهلك من خلال تشجيع منتجات معينة أو التقليل من استهلاك غيرها كالتبغ والمنتجات الضارة. والعمل عكس ذلك عن طريق الإعفاءات، التي يمكن بها تشجيع أنشطة مثل الاستثمار في الزراعة والطاقة المتجددة وغيرها.
الضرائب جزء من العقد الاجتماعي، وتمثل مساهمة جماعية في أداء المجتمع ورفاهيته. وهي تجسد مبدأ أن المواطنين يسهمون في المصلحة العامة مقابل المزايا والحماية التي توفرها الدولة. وهي تساعد على هيكلة المجتمع، وتعزز العدالة الاجتماعية، وتساعد في الحفاظ على اقتصاد مستقر وفعال.
منطقيا، ما نحن بحاجة ماسة له ليست زيادة الرواتب، أو حتى إبقاؤها على وضعها، بل رفع مستوى المعيشة، ليس مالياً، بل من خلال رفع مستوى الخدمات! فما فائدة راتب ضخم، إن كانت الطرقات خربة، والمستشفيات سيئة؛ والأدوية مفقودة والمدارس متهالكة، والأشجار ميتة.. إلخ
* * *
إلى أن تتعدل هذه الأمور، ويرتفع مستوى المعيشة، ليس أمام الأمة غير التمنى والصلاة والدعاء بأن تنجح حكومتنا في تعديل ميزان مدفوعاتها، وتقليل مصاريفها، والقضاء على «هدرها»!
أحمد الصراف
التعليقات