أمريكا، دولة أرهبت أساطيلها البحار والمحيطات، واستحوذت طائراتها وقواتها الجوية على ما فوق السحاب، وما تحته، وتجاوزت أحلامها قيادة الكوكب إلى قيادة الفضاء الخارجي، وعسكرته، بما يضمن لها التحكم فيه، حاضراً ومستقبلاً، وتحكّم دولارها في الاقتصاد العالمي أفقر دولاً، وأثرى أخرى، وأسقط أنظمة، وفتن شعوباً. قاد إعلامها الإعلام العالمي بما أملاه عليه، والرأي العام بما أقنعه به من دون تفرقة بين الحقائق، والأكاذيب، وشكّل فنها وفنانوها الوجدان البشري، بكل ما يروّجون له من أساطير، وأوهام، وعنف يُقدّم الأمريكي باعتباره المنتصر في كل المعارك، والمنقذ للكوكب من الكائنات الفضائية الوهمية؛ وقادت العالم تقنياً، بالسيطرة والتحكم في الشبكة العنكبوتية، لتتعرف منها إلى أدق تفاصيل حياة مَن تشاء من مليارات البشر. دولة لديها كل هذه القدرات، هي دولة لديها الكثير من الجبروت الذي يساعدها على أن تظل تسوّق نفسها للعالم على أنها القائد، والزعيم الذي ينبغي على الجميع إرضاؤه، والرضوخ لإرادته. أمريكا تبذل كل ما تستطيع للحفاظ على سطوتها، فتشعل حروباً، وتخلق فتناً، وتفرض عقوبات، وتدعم دولاً ضد دول، وتحرّك أساطيلها وطائراتها، في كل البحار والأجواء، أحياناً بهدف الترهيب لمن يفكرون في الخروج من تحت عباءتها، وغالباً لتأديب الخارجين عن إرادتها، تبذل كل ما تستطيع للسيطرة على العالم، متوهمة أن ذلك سيبقيها فوق الجميع، ومستبعدة أن يأتي فقدانها لسلطانها من الداخل.
أمريكا تبذل قصارى جهدها خارجياً لتظل على العرش، لا تؤمن بأن دوام الحال من المحال، ولا تقرأ التاريخ جيداً لتتعلم أنها لو دامت لغيرها ما وصلت إليها، تسعى للحشد ضد من يهدّد عرشها، تخلق أزمات للحالمين بقيادة العالم، من دون وعي بأن سياساتها المنحازة هي التي تجبر دولاً على التحالف مع منافسيها، لتزداد وتنمو التكتلات المناهضة للاستحواذ الأمريكي، وأن ازدواجية معاييرها هي التي تدفع الرأي العام العالمي للتخلي عنها، والانحياز لغيرها، وأن جشعها وطمعها في موارد الآخر، هو أكبر مهدد لها، وأن إشعالها للحرائق في أكثر من بقعة حول العالم لا بد وأن يرتد إليها ليحرقها سياسياً، ويخلخل العرش العالمي تحت أقدامها. وهو ما سيُسهم، عاجلاً أم آجلاً، في زعزعة مكانتها كقطب أوحد يتحكم في مفاصل العالم، ويملي على الكوكب إرادته.
التخبط الأمريكي أفرز أكبر مشكلة تهز صورة الولايات المتحدة عالمياً، وتخصم من رصيد نظامها السياسي داخلياً، وهي الانتخابات الرئاسية المنتظرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والتي تتنافس فيها حتى الآن شخصيتان على كل منهما الكثير من المآخذ. أمريكا التي تتباهى دائماً أمام العالم بأنها الدولة الفتية المالكة لكل مؤهلات القيادة العالمية، تتعجل شيخوختها بالاستسلام لإرادة مرشحَين شائخَين، ومطعون في قدراتهما على القيادة بأساليب مختلفة، جو بايدن الذي تجاوز الثمانين من العمر، ودونالد ترامب الواقف على أعتاب الثمانين. الغريب أن ترامب يستغل العمر للطعن في أهلية منافسه، كأنه أربعيني، أو خمسيني.
سيتواجهان في الانتخابات المقبلة، وكل منهما لا يريد من هذه المعركة سوى تحدي الآخر، والانتصار عليه، والانتقام منه، وتأتي في مؤخرة اهتمامهما معاً، مصلحة أمريكا ومستقبلها. ترامب أعلن ترشحه منذ اليوم الذي غادر البيت الأبيض، مقرراً استعادته من بايدن، وهزيمته في الانتخابات المقبلة، وخلال السنوات الأربع الماضية، بقي ترامب في حالة مواجهة مع القضاء، متهماً بأشكال من التهم وأهمها قضايا الفساد واستغلال النفوذ، ومع ذلك لم ينكسر، وتنقّل من محكمة إلى أخرى، وكل همه إقناع الناخب الأمريكي بأن جو بايدن، والحزب الديمقراطي، يقفان وراء ذلك في محاولة لتشويهه، وإقصائه سياسياً. في المقابل، يصر بايدن على مواصلة خوض الانتخابات رغم مطالبات عدد من أعضاء حزبه بالانسحاب بعد أدائه السيئ في المناظرة الأولى بينه وبين ترامب، والتي ظهر فيها مهزوزاً، ومرتبكاً. بايدن لا يزال مقتنعاً بأنه الوحيد القادر على الفوز بوجه ترامب، وحتى يخرس الألسنة التي تطالبه بالانسحاب فقد أعلن: «لن أنسحب إلا إذا نزل الرب، وقال لي جو انسحب»، فيما يوحي بقناعته أنه مكلف من الله بمهمته. المآخذ على بايدن ليست جديدة، وقد تحوّل في العديد من المناسبات إلى مادة لسخرية جماهير، وسياسيين، وإعلاميين، حول العالم، بعد العديد من زلات اللسان، والتي وصلت إلى أسماء رؤساء يتعامل معهم لتؤكد حالة التشوش الذهني لديه؛ والمآخذ على ترامب ليست جديدة، وقد بدأت منذ ترشحه للرئاسة للمرة الأولى، وتصريحاته المستفزة لعرقيات، والمسيئة لشعوب، والمهينة لحلفاء، ومؤسسات دولية. بايدن وترامب، صورة لأمريكا الشائخة المتعجلة لإزاحة نفسها عن عرش العالم.
التعليقات