لم تُسهّل إسرائيل بعد مهمّة إيران الهادفة إلى تنظيف الإهانة الكبيرة التي لحقت بها بسبب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، وهو في استضافتها. لم تكتفِ إسرائيل بعدم نفي علاقتها بهذه العملية التي لم تتبنّ الإقدام عليها، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، بحيث أمعنت في التعاطي مع الرد الإيراني "المحتمل" على أنّه نافذة سوف تستغلها لشن عمليات عسكرية ضد إيران، في عقر دارها، سواء من خلال تشكيلات الطائرات العسكرية وفق نموذج ميناء الحديدة، أو من خلال تنشيط الخلايا الخامدة المرتبطة باستخباراتها داخل إيران.
عمليّاً، تعرض إسرائيل على إيران ثلاثة خيارات صعبة للغاية: الأول، وقف الحرب بما يتلاءم وأمن إسرائيل الاستراتيجي، الأمر الذي يجب أن يسحب نفسه على التنظيمات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية و"حزب الله" في لبنان وسوريا. الثاني، الاكتفاء بهجوم مماثل لرد 13 نيسان (أبريل) على اغتيال قيادة فيلق القدس في القنصلية الإيرانية في دمشق. الثالث: الحرب.
بديهي أن قبول إيران بالخيارين الأول والثاني سيحوّل شعورها بالإهانة إلى مشهد من العار، وهي التي ستبدو، من أجل إنقاذ نفسها من الخسائر، تنسحب أمام أوّل تحد جدي، في حين كانت دفعت بالدول التي تهيمن عليها "جبهة المقاومة" إلى الدمار والموت والتفقير والنزوح والخطر، وفق ما تسبب به "حزب الله" للبنان بدخوله حرب "طوفان الأقصى"، ووفقاً لما جرت "حماس" على غزة بعدما صدّقت أن "وحدة الساحات" ستعينها على خوض حرب سريعة وبخسائر يمكن استيعابها إذا تمّت مقارنتها بالانتصار "المتخيّل".
لكن قبولها بخيار الحرب لن يكون أقل إهانة لها من اغتيال هنية. فهي، وفقاً لموازين القوى وطبيعة التحالفات والمشاكل الداخلية والخروق الاستخبارية، تقود نفسها إلى حيث لا تريد من جهة أولى، ولا تقوى من جهة ثانية، ويتنافى مع مخططاتها الدائمة من جهة ثالثة.
ماذا ستفعل إيران، والحالة هذه؟
يبدو الأنسب لها أن ترجئ الرد على اغتيال إسماعيل هنية حتى تنضج المساعي الدبلوماسية في دفع إسرائيل إلى القبول بثمن معقول. في ردّها على قتل قادة "فيلق القدس"، انتظرت إيران 12 يوماً حتى نظمت رداً مدروساً، بحيث جاء متوافقاً مع الاتصالات المانعة للحرب.
مشكلة إيران مع هذا الخيار، حتى لو جاء مؤذياً لإسرائيل معنويّاً، بإقناع عدد من الدول العربية بالبقاء خارج "تحالف الرد"، أنّه لا يضمن "توازع الردع" القائم على "توازن العنف". بعدم نفيها اغتيال هنية بواسطة خلية ميدانية تتحرك في "قدس أقداس" الحرس الثوري الإيراني في طهران، أظهرت إسرائيل أنّها لم تعثر على مكوّنات توازن الرعب مع "الجمهورية الإسلامية"، في هجوم الثالث عشر من نيسان (أبريل).
شخصيات مخضرمة في السياسة وتعرف بشكل ممتاز كيف يفكر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ينصحون إيران بالتراجع إلى هامش الأمان، من خلال تعقيد المهمة على نتنياهو. بين هؤلاء رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم الذي دعا إيران إلى استبدال الهجوم الانتقامي بخطة سياسية تُربك الحكومة الإسرائيلية، وتقوم على وجوب وقف الحرب، وإعادة النازحين الفلسطينيين إلى مناطقهم في قطاع غزة، والإفراج عن الرهائن.
تعتقد هذه الشخصيات أنّ نتنياهو نصب فخاً لإيران من أجل أخذها إلى التصعيد، ويقول حمد بن جاسم عن مضمون نصيحته: "هذا خير من رد لن يحقق أي نتيجة في الوقت والظروف الراهنة سوى خدمة خطوات نتنياهو التصعيدية، وسياسات حكومته المتطرفة الهادفة إلى إطالة بقائه في السلطة".
ووفقاً لما يتم تسريبه في إسرائيل، فإنّ ركيزة المناقشات داخل المجتمع العسكري الإسرائيلي، بتوجيه مباشر من نتنياهو، هي وضع اللمسات الأخيرة على خطة تهدف إلى استغلال الهجوم الإيراني المنسّق مع "جبهة المقاومة" من أجل إثارة الفوضى في إيران من جهة أولى، وشن هجوم واسع على "حزب الله" من جهة ثانية، وإلحاق أضرار كبيرة بالتنظيمات الموالية لإيران في سوريا والعراق من جهة ثالثة.
وبعيداً من كل الدخان الذي تحدثه الدعاية السياسية، فإنّ أحداً لا يمكنه اعتبار التسبب باندلاع حرب واسعة هو عقوبة لإسرائيل التي بيّنت، برفضها نفي صلتها باغتيال هنية في طهران، وتعمدها الذهاب إلى الضاحية الجنوبية لبيروت حيث اغتالت أهم قائد عسكري في "حزب الله"، وبشنّ هجومها الهائل على "حوثيي اليمن"، (بيّنت) أنّها لم تكن، بأي شكل من الأشكال، في وضعية الساعي إلى تسوية متوازنة واتفاق "ودّي".
وعليه، إن إعطاء إسرائيل المبرر لتصعيد الحرب يعتبر مكافأة لها على اغتيال هنية وفؤاد شكر وتدمير ميناء الحديدة.
التعليقات