رحل في 9 يوليو (2024) الصَّديق الكاتب السّعودي محمَّد بن عبد اللَّطيف آل الشّيخ، تاركاً ذكريات حافلة بمواجهة التطرف، المُمَثل بالصّحوة الدِّينية، التي أخذت تتكاثف في سّبعينيات القرن الماضي، حتى وجدت في حادثة «جهيمان»(20-11-1979)، وحرب أفغانستان، والثورة الإسلامية بإيران، روافعَ لها، اجتاحت البلدان، مع اختلاف الدّرجة مِن بلدٍ إلى آخر.
مع تفاقم الصّحوة ازداد زخم الإسلام السياسيّ، رافعاً راياتها، لتمهيد الأرض لثورات إسلاميّة. كانت أسلمة المجتمعات جارية، بالدَّفع إلى التدين بشروط الصحويين، الذين شكلوا أرتالاً مِن الشباب، يأمرون وينهون، حاشرين أنوفهم في الثقافة والتّعليم والقضاء، قوى منفلة باسم الدين، المؤمن مِن يشهدون له، والكافر مَن يشهدون عليه.
لا يُقَدّر خطورتهم إلا طرائدهم، يوم كانوا يطلبون مِن الرجل والمرأة إثبات الزواج، بالأسواق والطرقات، ومَن لم يثبت يؤخذ بتهمة أخلاقيّة، كانوا جماعات لم تبق مؤسسة اجتماعية وثقافية سالمة مِن انتهاكاتهم، امتلكوا المساجد والشّوارع، بما يقبلونه يصير حلالاً، وما يرفضونه يصبح حراماً، وأكثر التّجاوز وقع على النّساء، إلا مَن حمت نفسها بجلبابهم.
مَن تعرف على تلك الظّروف يُقدر أمثال محمد آل الشّيخ، واتخاذ قرار كبحهم، فالمساجد بأيديهم والتعليم تحت عباءاتهم، يراقبون حروف الصّحف، قوة اجتماعيّة هائلة، فلكم تصور موقف مَن واجههم بالكلمة لا غيرها.
تعرفتُ على عدد مِن المستنيرين السّعوديين، في عهد الصّحوة، وامتدت بيننا صِلات، المشترك مواجهة الأسلمة السّياسية، على اختلاف مذاهبها، منهم مَن تعرفتُ عليه في ديوانية آل الشّيخ، حيث داره بالرياض، ولنا تسميتها بدار النّدوة، تُحَضَّر فيها الأفكار، لمواجهة الخطاب الدّينيّ، كانت ديوانية أبي عبد اللَّطيف غرفة حرب ثقافيَّة، مناقشة الكتب والمقالات، لكُتاب، وكاتبات تحملنَ ثقل المواجهة بشراسة، بفضح وقائع تجنيد الانتحاريين مِن قبل الرموز الصّحوية.
كان آل الشّيخ مطلوباً من قِبلهم، فمقالاته، مناشير ضد الإسلام السياسي، ولو دونت لقاءات ديوانيته، لكانت جزءاً مِن تاريخ الصّحوة، فالكثيرون تحاشوا الصّدام، لحفظ السِّلم المجتمعي، فالاغتيالات كانت على أشدها بخناجرهم، والتفجيرات ببارودهم، ولكم تصور جرأة صاحب الكلمة آنذاك.
مازال تاريخ الصّحوة، منذ سيطرتها حتى لجمها وملاحقتها، بلا تدوين، صدر كتاب للوزير غازي القصيبي(ت: 2010)- في أوجها- «حتَّى لا تكون فتنة»، والتحذير مِن عودتها لسعيد السريحيّ «كي لا نصحو ثانية» وغيرهما، ومقالات، ونشاط فني كان محفوفاً بالمخاطر.
أصدر «مركز المسبار للدراسات والبحوث»، مساهمة في تدوين هذا التاريخ، كتابه الشّهري(202) «الصّحوة والإسلام السياسيّ»، فيه «الصّحوة في شقها السُّروريّ جدليات التسمية والنَّشأة والخطاب» لخالد العضاض، و«الصَّحوة بالسعودية حديث التحولات» لفهد شقيران، و«المرأة السُّعودية في ظل الصَّحوة» لسُكينة المشيخص، و«إخوان مصر والتعبئة الإيديولوجية والحركية للصحوة» لماهر فرغلي، و«الإسلام السّياسي في السّودان توظيف مفاهيم الصّحوة» لنور حمد، ولعمر الترابي «تفكيك خطاب الصّحوة»، ولنا «الصّحوة الدينية الرَّسمية بالعراق والحملة الإيمانية الكبرى».
ما تمكن «المسبار» مِنه، غيض مِن فيض، لتاريخ مرحلة أجهدت المجتمعات، وصاعدت العنف، حتّى صار الشَّباب أهدافاً سهلة للإخوان المسلمين وربيباتهم: القاعدة وداعش وبقية الأسماء.
عندما كتبتُ كتاب «عمائم سود بقصر آل سعود»(2011)، مشاهدات، انطلقتُ مِن ديوانية محمّد آل الشّيخ، وقرنتُ صاحبها بمعروف الرُّصافي(ت: 1945)، في الموقف مِن الاتجاهات الدّينيّة، وهما مِن بيئة دينيّة، وإذا كان المعريّ(ت: 449 هجرية) وراء صيرورة الرُّصافي تنويرياً صدوقاً، فوراء آل الشّيخ، أن يكون محارباً ضد الإسلام السّياسي، معرفته بالأُصول، لأنه مِن أسرة دينيَّة كبرى، يحاججهم بصحائفهم، مدركاً ثبات العقل، وتغير الزّمن.
ميز محاربو الصّحوة والإسلام السّياسيّ ظلام هذه الجماعات، بالعيون والعقول. لمعقل العجليّ أخي القائد أبي دلف(ت: 226 هجرية): «إذا لم أُميز بين نورٍ وظلمةٍ/ بعيني فالعينان زورٌ وباطلُ»(العميديّ، الإبانة).
*كاتب عراقي
- آخر تحديث :
التعليقات