راغب جابر

لبنان على عتبة حرب إن لم يكن في حالة حرب فعلية منذ بداية حرب غزة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. لكن الناظر إلى الداخل اللبناني يفاجأ بأن هذا البلد المهدد بحرب واسعة مدمرة في أي لحظة يعيش حالة من التناقض مثيرة للإعجاب وللاستغراب في آن واحد. بلد يرقص على كف عفريت، فعلى حدوده غارات إسرائيلية تصل أحياناً إلى البقاع وتخوم صيدا، بلدات دمرت أحياء كاملة فيها وضحايا تسقط كل يوم بين المدنيين عدا مئات المقاتلين من عناصر "حزب الله"، وتهديدات يومية يطلقها سياسيون وعسكريون إسرائيليون بتدمير لبنان بمنشآته وبناه التحتية والفوقية، وفي عاصمته بيروت ومدنه الأخرى وبلداته حفلات ومطربون يأتون من كل مكان وسهرات وأعراس وأفراح وملكات جمال وعروض فنية من كل الأنواع.

اللبنانيون تعودوا على حياة الحروب، عاشوها ومارسوها، وبعضهم ربما يحن إليها، أصبحت جزءاً من كينونتهم، لم يعد الموت ذا قيمة ما دامت الحياة لم تعد ذات قيمة في بلد لا قيمة فيه إلا لأصحاب النفوذ والمال والسطوة والقوة والسلبطة. واللبنانيون يحبون الحياة والفرح والسهر. هذه لازمة ترافق كل حديث عن الظاهرة اللبنانية المحيّرة. وليس الحديث عن ذلك احتجاجاً على الفرح و"العيشان" ففي عمق الحروب والمعاناة قد تبرز أجمل القصص وأحلى اللحظات.

لكن أبعد من هذا التحليل العَرَضي للظاهرة اللبنانية الفريدة يعكس واقع الحال اللبناني معضلة أساسية يواجهها البلد المنهار سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ومسلكياً وأخلاقياً.

إنه الانقسام بأوضح تجلياته، الانقسام العمودي المتمثل بالفشل الذريع للطبقة السياسة في حكم البلد وعدم قدرتها على إنجاز أي استحقاق دستوري في زمانه الطبيعي وتركها البلد بلا رئيس ولا حكومة ولا إدارة، والانقسام الأفقي على المستوى الشعبي والذي بلغ ذروته في الأشهر الماضية الأخيرة في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي. فكيف لبلد لا سلطة فيه ولا دولة أن يواجه حرباً كالتي يمكن أن تقع بين ساعة وأخرى؟

أظهر كثير من اللبنانيين ومن كل الطوائف أنهم يكرهون بعضهم بعضاً كرهاً شديداً ويشمتون بعضهم ببعض، وأنهم ليسوا شعباً واحداً ولا مجتمعاً واحداً ولا بلداً واحداً ولا يعيشون هماً واحداً وأن ما يباعد في ما بينهم هو أكثر بكثير مما يقربهم بعضهم من بعض. هذا واقع قائم لا تحجبه المجاملات ولا الأكاذيب المتبادلة ولا خطب الجوامع والكنائس والمناسبات المفتعلة.

كان لبنان منقسماً قبل حرب غزة ويعيش حالة احتقان شعبي وانسداد سياسي، ثم أتت الحرب لتزيد من حدة هذه الحالة. وتمظهر ذلك في الخطاب السياسي وفي الخطاب الشعبي، ما عزز حالة العداء الأيديولوجي بين اللبنانيين على خلفية الانتماء والهوية والدور. شيعة يقودهم "حزب الله" يرون أنفسهم جزءاً من محور يريد مقاتلة إسرائيل وأميركا وتحرير فلسطين ويعتبرون أن انتماءهم هذا أعاد إليهم حقوقاً كانت مغتصبة وبوأهم موقع قيادة وتأثير في البلد والإقليم وسيعضون على هذا الإنجاز بالنواجذ. "حزب الله" أخذ الشيعة إلى إيران ثم أتى بإيران إلى الضاحية وبعلبك والجنوب وكرّس انتماء محازبيه إلى الثقافة الإيرانية التي تذيب كل الانتماءات في الانتماء الأوسع إلى التشيع العالمي ودولة ولاية الفقيه. وفي المقابل سنّة فقدوا جزءاً مهماً من نفوذهم وتأثيرهم، بعضهم يجد نفسه على طرف النقيض العقائدي مع "حزب الله" وعلى خصومة سياسية وصلت في بعض المراحل إلى عداوة دموية رغم أن الغالبية الكبرى منهم تتضامن مع حركة "حماس" وغزة من موقع الانتماء المذهبي وبعض عروبة ما زالت تسكن في نفوس بعضهم، ومسيحيون لا يرون (في الغالب) أنفسهم معنيين بأي حرب مع إسرائيل ويدعون إلى الحياد في الصراع القائم ويعتبرون أن "حزب الله" يأخذ البلد إلى الدمار وإلى حرب من أجل الآخرين، ودروز تنتظر غالبيتهم إيماءات وليد جنبلاط وهم إجمالاً يفضلون الابتعاد عن الحرب.

يتخذ الانقسام اللبناني منحى حاداً في مخاطبة اللبنانيين بعضهم بعضاً، وفي طريقة نظرتهم إلى الحرب المتوقعة، وإلى مستقبلهم معاً إلى حد بات يمكن السؤال معه: هل ما زال البلد بلداً؟

لم يبنِ اللبنانيون دولة منذ إعلان الجنرال الفرنسي غورو قيام جمهوريتهم "الكبيرة" عام 1920، وتاريخهم منذ الاستقلال شاهد وكذلك حاضرهم، وسيبقى مستقبلهم مرتبطاً بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبالصراع الإيراني الإسرائيلي المستجد إلى يوم لا يعرفه إلا الله.