حسن اليمني

تبدو لي الحداثة يقظة أو نهضة خرجت من بؤس التخلف والجهل لتبني حضارة مادية غير مسبوقة، بمعنى أنها تولّدت نتيجة تفاعل واقع بائس لتصنع ذاتها بفكرها وعقلها بغياب إرث أو تاريخ يحكمها أو يتدخل في توجيه مسارها، ويظهر ذلك في منتجها المختلف تماما عن واقع ثارت عليه وهدمته وبنت محله حضارة مادية جبارة.

لم يكن ذلك سهلا بالطبع فحين يصعد العقل لمواجهة الواقع المتخلف ليفجر طاقاته يصبح ما يشبه انفجار بركان وعي واستيقاظ ينحى التحرر من ركام خمود القرون ليقذف حمم البراكين نحو قواعد وأسس البناء المتخلف الذي بدوره يسعى أيضا للملمة وتحجيم هذا الانفجار فيدخل معه في فوضى تستحق أن تُسمى خلّاقة فعلا.

هل يشترط النهوض توافر مثل هذه المعطيات للوصول لذات النتيجة أم يمكن استبدال المعطيات بالتتبع التقليدي؟ للإجابة فلابد من الفصل والتفريق بين المعطى الذي يعد أصيلا بحكم أنه واقع حال بناه الزمان المتعاقب حتى وصل ذروته فتفجر لواقع آخر مختلف وبين تقليد لا تتوافر له ذات المعطيات، فالقوة المحركة لانفجار البركان عوامل تجمعت على مدى أزمنة وصلت منتهاها وقد لا تتوافر لدى المقلد، بل إنها فعلا لا تتوافر لأنها جنس أو نوع مختلف أصلا.

الحداثة الغربية التي أعجبت وألهمت بما حققته من تحضر مادي غير مسبوق والتي خلقتها معطيات واقعها وتفجرت في أذهان وعقول مفكرة هي شبيهة لمرحلة انبعاث الإسلام بين العرب وتوسعه وتمدده خارج الجزيرة العربية ليخلق ما نعرفه اليوم بالثقافة الإسلامية، بل حققت نتائج - أفضل - واستمرت لعدّة قرون، ولو حسبنا الزمن بالتاريخ الميلادي المهيمن اليوم ومقداره 2024 عاما فإن 1300 عام تقريبا منه يحسب للثقافة الإسلامية لم يكن فيه ظهور لثقافة منافسة بفعل حقيقي فاعل.

ولو أنا أردنا فصل الثقافة العربية عن الثقافة الإسلامية لنقف على فعل العقل العربي ومدى مساهمته في الحضارة الإسلامية والتي ما زالت حتى اليوم تحتل المركز الأول في أكبر الحضارات العالمية زمنا وتاريخا فلن نجد للثقافة العربية ظهورا عالميا أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان تقريبا، لكنها كانت نواة للثقافة الإسلامية والتي احتوت عربا وعجما في أمة واحدة لم يكن العرب فيها إلا أقلية عددية ولكن قوة روحية حاكمة ومسيطرة وإن لم تستمر طويلا، وفي العصر الحديث بعد ظهور الدولة العربية ظهرت مدارس عربية فكرية وثقافية تبحث عن الاتجاه نحو اللحاق بالركب الحضاري خارج إرث حضارتها في قوتين شرقية وغربية أنتجتها الحداثة الفكرية الأوروبية، ثم كان الأمن والاستقرار الذي حصلت عليه كثير من الدول العربية ونما فيه التعليم ومراكز البناء والتطور وتشابك العلاقات مع القوى المتقدمة وتبادل المنافع لتظهر أجيال بعد أجيال تتقدم علم وثقافة وفكر أكثر سعة في النضوج حتى انحصر بين مسارين تقليدي وتحديثي، التقليدي وصف خاطئ في الظاهر لكنه في المضمون صحيح فهو تقليد للثقافة العربية الإسلامية والاستفادة من معطيات العصر لترقيته وتطويره في حين أن التحديثي جديد ومحدث في الظاهر لكنه في المضمون تقليدي وتبعي لنهج حاكم ومسيطر على العصر أو الواقع بمادية طاغية على الروحية لكن بشكل جاذب وساحر ومغرٍ. اليوم والعالم يتجه لتكوين ثقافة عالمية موحدة تحت راية النيو ليبرالية الغربية تحول التنافس بين العالمية والمحلية أو لنقل بين العالمية والأممية، تنافس تحول إلى صراع ثقافي أجبر كثيرا من الأمم لمهادنة هذه النيو ليبرالية أو حتى الخضوع لها، فاعتقد بعض المثقفين والمفكرين العرب تحت عنوان الحداثة أنهم سبقوا الزمان ولحقوا بالركب ونسوا أو تناسوا أنهم داخل صراع حضاري بين الروحية والمادية في حين أصبح اتباع الثقافة العربية الإسلامية تحت وصف المقلدين أو المتخلفين بل ووصل بالبعض في الجانب الحداثي إلى الدعوة لنسف التاريخ ودفنه والاحتكام إلى العقل واعتباره «الرب» الذي هدى العالم الغربي للصراط المستقيم حين يقال إن العقل والعلم هما حاكم الصح والخطأ، هم يحتجون بالواقع المعيش والذي لا يختلف اثنان أنه غير مسبوق بمدى إنتاجه المادي، لكن حين نتذكر أن عماد أي حضارة يستند إلى عمودين أدب وعلم ثم نتجاهل الأدب الغربي المتجه في الانحدار نحو السقوط الأخلاقي والإنسانيحت إبهار التقدم العلمي فذاك منظار أعور.

فعلا نحتاج إلى الحداثة ونحتاج تفعيل العقل أكثر وإعادة مراجعة النقل امتثالا لتبدل الوعي والفهم بين عصر وآخر ومن مرحلة لأخرى، لكن حداثة حقيقية متأصلة بالإرث والتاريخ لا تقليد لثقافة أخرى، وبتحرر كامل للعقل في الاستقراء والتفكير في أقصى مداه ليس ليحكم ويفصل بين الصح والخطأ كما يرى البعض - لاختلاف آلية العدل - بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، تلك حد سقفها النهائي العقل، في حين تمتد ثقافتنا الإسلامية في سقف العلم لمدى لا متناه يتجاوز العقل والعلم البشريين، هذا تميّز تحديثي مستمر لا نهاية له.

أخيراً فإن المنطق الطبيعي أداة العقل في البحث والتفكير ولا خلاف على ذلك، لكن أن يقف سقف العلم عند حدود الفهم للعقل فهذا كِبَرُ واغترار يناقض المنطق الطبيعي في الوجود - ويختلف الأمر هنا بين من يؤمن بوجود خالق وقوة لا متناهية وبين من يقف سقف تفكيره عند حدود سعة عقله فلا يرى أبعد منه - وهذا قُصر يستطيع المثقف العربي المسلم تجاوزه هو تميّز له يرفع سقف علمه أبعد من حدود العقل إن صدق في إيمانه وأخلص في صدقه وأعمل عقله بإخلاص، بدءا بالخروج من الدونية وتخليص الروح من الانهزامية أمام سطوع المشهد وسطوة جذبه وإغرائه.