حسن مدن
د. حسن مدن
كان عباس محمود العقاد يمشي ذات مرة في شارع شريف، وشاءت الأقدار أن كاتباً من جيل جديد لم يسبق له أن التقى العقاد وجهاً لوجه، أو تحدث معه، لحَظه وهو يمشي يومها، فوجده كما اعتاد رؤيته في الصور: قامة مديدة، بدلة فاتحة مُقلّمة، نظارة، كوفية رفيعة طويلة. لم يستوقف الكاتب الشاب العقاد للسلام عليه، أو إبداء عجابه بما يكتب، أو تقديم نفسه إليه كما يفعل الناس مع المشاهير. آثر أن يمشي خلفه، مراقباً إيّاه، وراح يحدّث نفسه: «لو أن العقاد كان أطول أو أقصر بإصبع واحدة لما أمكن له أن يكون العقاد أبداً».
عندما تأتي سيرة العقاد كان والد هذا الكاتب الشاب يقول، وهو قاعد على الكنبة يعبث بمسبحته: «يا باي.. ده جبار»، مع أنه، أي الوالد، لم يكن قد قرأ حرفاً واحداً للعقاد. وحين قرأ الشاب بعضاً من أعمال العقاد لم يتحوّل إلى واحد من قرائه المولعين، ولا الكارهين، مع أنه ظلّ يمثل بالنسبة إليه حالاً من الرعب، هو الذي نشأ يسمع الناس يقولون في هجاء كل من يتفذلك، أو يدّعي المعرفة: «حضرته فاكر نفسه العقاد». وعلى ما بين طه حسين والعقاد من تناقضات، في الموقف والرؤية، وتفاوت في عمق المحتوى، فإن الرجلين بتعبير كاتبنا الشاب: «مثّلا جناحي الأسطورة التي هيمنت على الحياة الفكرية والأدبية».
نعود إلى لقاء المصادفة بين العقاد والكاتب الشاب في شارع شريف. لم يمرّ وقت طويل حتى توقف العقاد أمام محل قرطاسيات، فانحنى وهو على مبعدة من عتبة المحل يتأمل قلماً في علبة مفتوحة على واحد من أرفف المحل، ثم مدّ يده إلى جيب سترته وأخرج قلمه، وانحنى أكثر وهو يمسكه بين يديه يتأمّله هو الآخر، ويعود لتأمّل القلم المعروض على الرف، واستمرّ طويلاً في المقارنة بين القلمين. أثار ذلك فضول الكاتب الشاب فاقترب ليقف على بعد خطوتين عن يمين العقاد، ورأى القلم المعروض وكذلك القلم الذي بين أصابعه، فاستغرب، حيث لا وجود للشبه، أو المقارنة، لا في الحجم ولا اللون. ألقى العقاد نظرة أخيرة على القلمين، وأعاد قلمه إلى جيبه، وهو يعتدل، ويبتعد متمهلاً على الرصيف العريض، ويستدير هناك مع ناصية المبنى، ويختفي.
توفي العقّاد بعد هذا اللقاء بأشهر قليلة، في 12 مارس/ آذار 1964، فلم يُقدّر له أن يقرأ ما كتبه الكاتب الشاب عن حكايته مع القلمين بعد ذلك بنحو خمسة وعشرين عاماً، بالضبط في أغسطس/ آب 1989.
سنبدّد ما نشأ لديكم من فضول حول من يكون الكاتب الشاب الذي جمعه ذلك اللقاء اليتيم مع العقاد. إنه إبراهيم أصلان.
التعليقات