فاروق يوسف

في وقت كانت المغنية اللبنانية باسكال مشعلاني تُمنح وسام الجواهري في بغداد، كان هناك وفد ثقافي عراقي رفيع المستوى يتكون من رئيسين سابق وحالي لاتحاد الأدباء والمستشار الثقافي لرئيس الوزراء وعدد من أعضاء الاتحاد يقوم بزيارة العاصمة التشيكية براغ بدعوة من السفير العراقي هناك من أجل حضور حفل افتتاح نصب محمد مهدي الجواهري، الشاعر العراقي الذي أقام في براغ حوالي نصف قرن وكتب في مديحها الكثير من قصائده "أطلت الشوط من عمري/ أطال الله من عمرك".

كان متوقعاً أن يكون الوسام الذي حصلت عليه المغنية اللبنانية موضع سخرية، غير أن ما لم يتوقعه المرء أن يمارس وفد اتحاد الأدباء عملية خداع من أجل التمتع بسفرة مدفوعة الثمن بحجة افتتاح نصب وهمي لم تعد بلدية بإقامته باعتراف رئيس الاتحاد السابق فاضل ثامر. وللتوضيح كانت هناك شاهدة تشبه شواهد القبور قد وضعت في أحد شوارع براغ الفرعية تحمل اسم الجواهري. أكان ذلك مدعاة لأن يقوم السفير العراقي في براغ بدعوة وفد ثقافي رفيع المستوى من بغداد؟ حدثان تزامنا وحملا اسم صاحب "حييت سفحك عن بعد فحييني/ يا دجلة الخير يا أم البساتين". وهما ينطويان على قدر من الفكاهة السوداء التي تلقي ضوءاً على واقع الثقافة في العراق في مرحلة ما بعد الاحتلال. ذلك واقع منهار تتم التغطية عليه بالاحتفالات والمهرجانات والمسابقات التي هي أشبه بالأعراس الموقتة أو حفلات السيرك التي لا تبقي شيئاً من أثرها بعد انقضائها.

مؤسسات ثقافية هي هياكل فارغة

يقيم العراق مهرجاناً سنوياً للسينما رغم أن صالات العروض السينمائية كانت قد أُغلقت وتحولت إلى أماكن لتخزين البضائع. أما المسرح فإن له مهرجانات عديدة في السنة، توزع فيها الجوائز ويُدعى إليها الكثير من الفنانات والفنانين العرب، علماً بأن الحياة اليومية تخلو من أي نشاط مسرحي. لا أعرف ما إذا كانت هناك فرق مسرحية تمارس نشاطها سراً. وكما يبدو فإن النظام السياسي الذي لا يُخفي تشدده الديني قد وجد في المهرجانات الفنية فرصة لتلميع صورته عربياً. غير أنه رغم كرمه في الإنفاق لم يكن قادراً على تمرير اللعبة بدهاء وإتقان، ذلك لأن أجهزته تفتقر إلى الخبرة في الحياة الثقافية العربية، وهو ما افتُضح أمره في "مهرجان العراق" الذي كُلفت إدارته والإشراف عليه مطربة لم تعش في العراق هي ندى حسون التي تستعد الآن لإطلاق نسخته الثانية. كانت نسخة عام 2023 عبارة عن حفلة زائفة دُعي إلى حضورها فنانون من الدرجة العاشرة وفنانات من الدرجة نفسها حرصن على ارتداء ثياب جريئة وقد فُرشت لهن السجادة الحمراء اقتداءً بالمهرجانات العالمية. لم يُفهم معنى إقامة ذلك المهرجان أو الغرض منه، كما أن أحداً لم يقلقه الاستفهام الذي يحوم حول منظمته التي تعترف بأنها لا تعرف شيئاً عن العراق. ليس من الصعب تفكيك عناصر ذلك اللغز إذا ما عرفنا أن ما يُسمى بالعمل الثقافي صار يُدار من خارج المؤسسات الثقافية التي لم تعد تملك القدرة على اتخاذ قرار يتعلق بعملها، فهي أشبه ما تكون بكيانات وهمية يديرها بسبب نظام المحاصصة أناس لا علاقة لهم باختصاصها.

حين تنكر العراقيون لشاعرهم الكبير

قبل وفاته منتصف عام 2021 في لندن كان الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف قد تعرض لحملة تشويه سمعة داخل العراق وصولاً إلى المطالبة بحرق كتبه، وهو ما حدث رمزياً في شارع المتنبي الذي تحوّل من سوق للكتب إلى مجمع للمطاعم. أما سبب تلك الحملة فيعود إلى رفض الشاعر أثناء مرضه استقبال وزير الثقافة العراقي لأنه لا يعترف بالحكومة التي كان الوزير جزءاً منها. تلك الحكومة، بحسب رؤية الشاعر، غير شرعية لأنها سليلة حكومات وضعها المحتل الأميركي لخدمة أغراضه. وإذا ما كان الوزير قد أصدر بياناً يعبر فيه عن ندمه مهاجماً الشاعر، فإن موقفه جاء منسجماً مع موقف طرفين. الميليشيات هي الطرف الأول بعدما قام وفد من اتحاد الأدباء بزيارة قيس الخزعلي وهو زعيم ميليشيا "عصائب أهل الحق" بعدما أُشيع أنه سيدير وزارة الثقافة. والطرف الثاني هم الشيوعيون بقيادة فخري كريم زنكنة، مستشار الرئيس جلال طالباني ورئيس "دار المدى" وهو يمارس فعلياً دور وزير الثقافة الحقيقي في ظل ضعف الوزارة وانخفاض مخصصاتها المالية وإدارتها من قبل أشخاص ظلمهم النظام الطائفي حين وضعهم في أقل وزاراته أهمية. حين توفي سعدي يوسف منع اتحاد الأدباء محاولة لإقامة ندوة، رغم أن تلك الندوة كان مخططاً لها أن تكون مناسبة للتقليل من قيمته الشعرية. لم يكن واقع العراق الثقافي يتحمل حضور شاعر كبير حتى لو حدث ذلك على سبيل الهجاء.

سماسرة ومتعهدو حفلات

هناك مفارقة تكمن في أن الشيوعيين الذين حقق لهم المحتل الأميركي حلمهم بأن تكون لهم سلطة الثقافة كانوا دائماً يعتبرون الشاعر الجواهري واحداً منهم رغم أنه لم يكن كذلك. غير أنهم لم يعترضوا على أن تقوم جهة ما بسك ميدالية برونزية تحمل اسم الجواهري لتنالها الممثلة السورية نسرين طافش بعد باسكال مشعلاني. لا اعتراض لديهم على طافش، ومن قبلها محمد رمضان وميريام فارس، ولكن الاعتراض على سعدي يوسف له محل من الإعراب في حسابات الثقافة العراقية التي تشبه في هشاشتها الدولة العراقية التي تعتاش على الفوضى مثلما تعتاش الفوضى عليها.

ومثلما هي أحوال شارع المتنبي الذي تحول إلى واجهة مزخرفة لا تمت بصلة إلى تاريخه شارعاً للكتب، فإن المثقف العراقي لا يجد معنى لوجوده الثقافي في بلد تحكمه الميليشيات وفي الوقت نفسه تُفرش فيه السجادة الحمراء لمدعوات مجهولات القيمة لحضور مهرجان مجلة "السيدة الأولى". وهو مهرجان غامض شبيه بمهرجان العراق لصاحبته ندى حسون. فجيعة الثقافة العراقية لا تكمن في أنها صارت من غير بنى تحتية فحسب، بل أيضاً لأنها صارت مجالاً يعتاش منه برفاهية وترف سماسرة ومتعهدو حفلات التلميع وتزييف الواقع.