يوسف أبو لوز

لم تكن ورش تعلم الكتابة الإبداعية (الشعر، القصة) موجودة في فضاءات الثقافة العربية أو في بعض كياناتها مثل المؤسسات أو الدوائر المعنية بالكتابة، وإذا عدت إلى الخمسينات والستينات من القرن العشرين تجد أن تجمعات أدبية مثل الصالونات الثقافية، وخميسات مجلة شعر في بيروت، وجلسات المقاهي هي التي كانت سائدة آنذاك، لكنها ليست ورش عمل أو ورش تدريب، بل كانت شكلاً من أشكال حيوية إنتاج الثقافة من خلال جماعات أدبية كانت تلتقي في صالون أو في مقهى لكي تتداول بعض القضايا الثقافية على شكل حوارات وسجالات ثنائية أو جماعية، ولكن كل هذه الدوائر المثقفة (الضيقة) والتي تجمع عدداً من النقاد أو الروائيين أو الشعراء لم تكن دوائر تدريب على الكتابة، لا بل إن من كان يقول بتعلم الكتابة شعراً ونثراً على يد مدرّبين إنما كان موضع سخرية، فكيف يمكن لشاعر أن يتعلم كتابة قصيدة على يد شاعر آخر، فما بالك إذا كان هذا (الشاعر الآخر) رديئاً، فهو، إذاً، مدرّب رديء لن ينتج هو وتلميذه سوى كتابة رديئة.

في العقدين الأخيرين صرنا نقرأ عن ورش تدريب تعلّم كتابة الشعر، والنثر (الرواية)، ولا أدري في ما إذا كانت هناك ورش تعليم النقد الأدبي، غير أن هذه الورش لا تشكل ظاهرة منتشرة على نطاق واسع عربياً وعالمياً، بل هي حالات تدريبية، والأرجح، أنها تجريبية، أي تجرّب أدوات التدريب على أشخاص متدرّبين يستهويهم الأمر لأن يكونوا أدباء..نظرياً قد يستفيد المتدرّب في هذه الورش من بعض أبجديات الكتابة، من حيث اللغة مثلاً (النحو)، وقد يستفيد من معلم العروض في الورشة التدريبية، كأن يعرف بحور الشعر، والتفعيلات، والتقطيع، والوزن، لكن كل هذه المعرفة النظرية لا يمكن أن تصنع شاعراً، وانظر هنا ما أبشع كلمة (تصنع)، فالأدب لا يمكن أن يكون (صنعة) إلا على يد (صانع) مزيّف.

في القصة القصيرة، قد يستفيد المتدرّب من بعض كلاسيكيات بنية القصة القصيرة، مثل البداية، والنهاية، العقدة، والحلّ، تسلسل الحدث، وإلى آخره من مكونات القصة القصيرة التي يعرفها أهل أدب القصة أكثر مني، غير أن كل هذه الدروس النظرية التدريبية لن تخلق لك تشيخوف ولا يوسف إدريس ولا إميل زولا أو محمد خضير، وأنت تعرف أكثر مني أن هؤلاء الكتّاب الذين ذكرتهم لك الآن وغيرهم ممن يعيشون في ذاكرة العالم الأدبية لم يذهبوا ذات يوم إلى ورش تدريب. تخيّل زكريا تامر وهو في الثلاثين أو الأربعين من عمره، وقد خطر على باله أن يصبح قاصاً، فحمل نفسه، وذهب يبحث في دمشق عن مدرّب قصصي..فعلاً، يبدو الأمر فكاهياً إذ يأتي ربما على هذه الصورة العائلية الكاريكاتورية.. يجيء الفتى أو تجيء الفتاة إلى أمها: وتخبرها:.. ماما أريد أن أصبح شاعرة!! حسناً: اذهبي إلى مركز تدريب، والأمر هنا يبدو وكأنه تعلم قيادة سيارة، أو تعلم السباحة.

في محاذاة ذلك ظهرت مراكز تدريب أو تعليم الموسيقى أو الرقص، وهذه لا غبار عليها، ذلك أن الفنون الحركية الجسدية أو الأدائية لا بد لها من تدريب، فيما تولد القصيدة في الخفاء في قلب الشاعر أو في عينيه، وهذه الولادة لا تحتاج إلى مدرب أو معلم.

ويخيل لي أيضاً أن تعلم الرسم لا (يصنع) رسّاماً، أنجلو لم يتعلم الرسم على يدي عرّاب في الألوان والظلال والضوء.. إن الصورة المرسومة على يدي الرسام تشبه القصيدة المولودة من كينونة الشاعر. الرسمة والقصيدة لا تصنعهما ورشة تدريب.

.. وإذاً ؟؟ ما العمل.. كيف نتعلم الشعر والنثر؟؟.

الجواب.. لا تعليم. إنما القراءة أولاً. القراءة ثانياً. القراءة أخيراً وإلى الأبد. إن ورشة التدريب الوحيدة المفتوحة على الآداب والسرديات والشعريات والنثريات هي القراءة.

الكتب وحدها تعلّمك كيف تكتب. القراءة قبل الكتابة بعشر مرات. اقرأ في ورشتك الصغيرة في ركن من أركان بيتك. هناك لك مكتبة ووقت للقراءة. تلك هي ورشة التدريب. اقرأ مئة كتاب جيد، لتكتب نصف قصة جيدة. واقرأ مئة ديوان، لتتجرأ على كتابة قصيدة واحدة.

على الرغم من كل ذلك فإنه من الإجحاف الشطب بالقلم الأحمر على كل ورش التدريب على الكتابة الإبداعية؛ فالأساسيات في الكتاب مثل النحو، الصرف، البلاغة، اللغة، علامات الترقيم، الجملة الطويلة، الجملة القصيرة. قصيدة العمود. قصيدة التفعيلة.

قصيدة النثر.. إذا كانت علمية وصحيحة تماماً فهي أساسيات تدعم فكرة ورش التدريبات التي تهيئ نظرياً للكتابة، ولكن على مستوى عملي فلا يمكن حتى للجن الأزرق أن يخلق شاعراً أو قاصاً أو روائياً.. وهؤلاء أيضاً إن لم يكونوا موهوبين فإن كل وحي وادي عبقر لن يعصر منهم ولا جملة واحدة.

الموهبة، والفطرة الأدبية لا تباعان في السوبر ماركت ولا تصنعهما ورشة – تدريب.