محمد خلفان الصوافي

إن تعدد الأزمات الدولية والإقليمية واستمرارها لعقود طويلة دون حل، يعيد دائماً الحديث عن الحاجة إلى حلول مبتكرة، على اعتبار أن الحلول التقليدية فشلت في علاجها، ومن ضمن تلك الحلول في وقتنا الحاضر استخدام ما يعرف بـ «المرونة الدبلوماسية» بدلاً من المواقف الجامدة أو ما تسمى بالمواقف الحدية.

لو نظرنا إلى منطقتنا والعالم اليوم، سنجد أن القاسم المشترك هو الابتعاد عن تبني تلك المواقف ذات الاتجاه الواحد. والتي تعني الوقوف بشكل كامل مع طرف ضد طرف آخر، بل المواقف التي تتسم بـ «الوسطية» وغير المتصلبة هي البارزة، حيث تجد أن الدول تحافظ على علاقة منضبطة دبلوماسياً مع طرفي الخلاف.

ويعود السبب في بروز المرونة الدبلوماسية إلى عنصرين اثنين؛ العنصر الأول: تشابك مصالح الدول وتداخلها لدرجة أن الدول تَقلق من خسارة مصالحها في حالة اتخذت موقفاً نهائياً أو متصلباً بما يعبر عن التحيز الكامل لطرف على حساب طرف منافس، خاصة وأن أغلب الصراعات القائمة تعاني الضبابية وعدم الوضوح، مما يصعب على صانعي القرار تقدير الموقف بشكل دقيق.

العنصر الثاني: أن الأطراف المتصارعة تتقارب أو تتوازن في مقدار قوتها وتأثيرها على بعض، بحيث نجد أنه ليس باستطاعة أي من الطرفين حسم الموقف العسكري أو السياسي لصالحه. وهذا مرجعه إلى أن أدوات الحسم للخلافات والنزاعات لم تعد كما هي متعارف عليها تقليدياً، وإنما هناك العديد من الأدوات المؤثرة لا بد لطرف أن يمتلكها لكي يجبر الآخر على القبول بالتنازل، ربما أفضل مثال في هذا الأمر تعنت حركة «حماس» في مفاوضاتها مع إسرائيل رغم ما تمتلكه الأخيرة من قدرات عسكرية وسياسية.

يبقى الطرف الثالث في المعادلة وهي الدول التي ليست طرفاً في الصراع، فهي تفضل الحوار والتفاوض كأسلوب لإنهاء الصراعات المتفجرة، بل إن المجتمع الدولي نفسه يشجع فكرة أن يجلس المتخاصمون سواء على مستوى الدول أو القوى السياسية في الصراعات غير الدولية (الحروب الأهلية) مع بعضهم من أجل الحوار والتفاهم، إيماناً بأن الصراعات والحروب لا تنتهي بالمواجهات وإنما بالتفاوض.

فكرة «المرونة الدبلوماسية» تعني أنه بإمكان دولة ما في العالم أن تختلف مع دولة أخرى في ملف معين، ولكن في الوقت نفسه نجدها تتفق معها في ملف آخر. وهذا الأمر ينبغي أن يكون مفهوماً في العلاقات الدولية؛ لأن المصالح هي المحرك الأساسي في العلاقات الدولية وهي كذلك التي توطد العلاقات بين الدول.

وحتى لا يبقى الحديث نظرياً، يمكن التوقف عند تفاصيل العلاقات الأمريكية - الصينية، فرغم حالة الحرب التجارية بينهما وكذلك التنافس الجيوسياسي في منطقة بحر الصين الجنوبي، إلا أن هناك مصالح متبادلة وتفاهمات بل نقاشات مشتركة. وكذلك الأمر بين إيران والولايات المتحدة؛ فرغم التشاحن السياسي إلا أن هناك حديثاً متبادلاً بطريقة مباشرة أحياناً، وغير مباشرة في أحيان أخرى، ساهمت في تهدئة الأوضاع بينهما وإيجاد أرضية يمكن إحياؤها في وقت ما. الأمر ينطبق أيضاً على الحديث المتداول عن احتمال عودة العلاقات السورية -الأوروبية مع أنه لم يكن هناك حديث عن هذه العلاقات في فترة تعود إلى أقل من عقد.

آخر رئيس في العالم استخدم منطق الحدية في العلاقات الدولية أو ما يعرف دبلوماسياً بـ«المعادلة الصفرية» هو جورج بوش الابن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 عندما قال: «من ليس معنا فهو ضدنا»، ويومها لم تستطع ولا دولة في العالم أن تقف في وجه الغضب الأمريكي بعد انتهاك سيادتها وكسر هيبتها من قبل مجموعة من إرهابيي «تنظيم القاعدة» فكانت الحرب عالمية ضد الإرهاب، حيث شارك الجميع فيها.

إن مبدأ بوش انتهى أمره ولم يعد موجوداً حالياً خاصة في حالة الانقسام السياسي بين الغرب والشرق وحالة الشد والجذب بين الدول الكبرى، وتحول الأمر لأن يستخدم الأغلب «الدبلوماسية المرنة» من أجل الحفاظ على المصالح الوطنية للدول، فقاعدة التفاهم والتباعد سياسياً بين الدول معيارها مدى قربها من المصالح الوطنية، وما عدا ذلك لا يوجد شيء ثابت في السياسة وإنما التغير هو الأساس.