راغب جابر

اللبنانيون على العموم شعب مبتهج يبدي سعادته بأي حدث إيجابي، أو قد يراه إيجابياً، بسرعة فائقة. وإضافة إلى نزعته الابتهاجية، هو شعب ساخر إلى أبعد الحدود، وبات ينافس الشعب المصري المعروف تاريخياً بسخريته وسرعة بديهته في التنكيت ورواية الطرائف وتوريته الظريفة في الاستهزاء بالسياسة والسياسيين.

المناسبة هي توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة على ذمة التحقيق في قضايا فساد واختلاس بعشرات ملايين الدولارات، أثناء ولايته الطويلة على رأس المؤسسة المالية التي يحمّلها اللبنانيون مسؤولية مباشرة عن انهيار عملتهم ووضعهم الاقتصادي والاجتماعي، وتبخر ودائعهم وتقلص القدرة الشرائية لمداخيلهم.

ابتهج اللبنانيون كثيراً بخبر توقيف سلامة، وعبّر كثيرون منهم في مواقع التواصل الاجتماعي عن شماتتهم بالرجل الذي كان في يوم من الأيام يعتبر أفضل حاكم بنك مركزي في العالم، ونال جوائز وتقديرات من مؤسسات دولية لا تُعد ولا تُحصى. تُرى هل كان يشتريها كما تشتري بعض الفنانات جوائزهن؟

وفضلاً عن الابتهاج الواسع بتوقيف سلامة الذي اتخذ طابعاً انتقامياً، فاضت القرائح بالسخرية من الرجل القوي الذي وقع أخيراً في قبضة العدالة، وتداول رواد مواقع التواصل صوره مقتاداً مخفوراً إلى النظارة بعد إعلان توقيفه، هو الذي كان إلى الأمس القريب نجم الشاشات والسهرات بسيكاره الفخم وبسمته الصفراء المتعالية وثقته الكبيرة بنفسه.

"عندما تقع البقرة يكثر سلاخوها"، مثل لبناني شائع ومعبر، هكذا هي الحال مع سقوط رياض سلامة إلى النظارة مخفوراً، لكن توقيف رياض سلامة هو توقيف احترازي ولم يُحكم على الرجل بشيء بعد، وما على أصحاب السكاكين إلا أن ينتظروا قليلاً، فليس لبنان بلداً يحاسب الفاسدين والمرتكبين والفاشلين ومخالفي القوانين، لسبب بسيط هو أن كل هؤلاء ينتمون إلى الطبقة الحاكمة التي تبغض مبدأ المحاسبة، بل تقوّض منطق القانون من أساسه.

توقيف رياض سلامة أبهج اللبنانيين لأنهم في العمق يبحثون عمن يحمّلونه مسؤولية الانهيار الاقتصادي وخربان بيوتهم وضياع مدخراتهم، والرجل "جسمه لبيس"، وهو بالطبع مسؤول عن السياسة النقدية في البلاد عندما كان حاكماً بأمره من على كرسي الرئاسة في المصرف الذي كان شريك الطبقة السياسية في إدارة إفلاس البلد وتبديد ثروة المواطنين، مقيمين ومغتربين.

يعرف اللبنانيون أن سلامة لم يكن وحيداً في إدارته مال البلد، هو شريك جميع السياسيين الذين حموه ومددوا له ولايته مرة بعد أخرى. حمى أموالهم وغطى تهريبها إلى الخارج عند بدء الأزمة. وظّف أولادهم وزوجاتهم وأبناء عمومتهم وأزلامهم في المصرف المركزي برواتب خيالية، وقدم لهم خدمات لا يعلم بها إلا الله والراسخون في العلم.

ليس رياض سلامة غصناً مقطوعاً من شجرة، شجرته ممتدة ومتجذرة في الحياة السياسية للبلد، وما زال الطريق طويلاً قبل إدانته، هذا إذا لم يطلق سراحه في مدة الأربعة أيام القانونية لتوقيفه الاحترازي. كلمة احترازي قد تختزل المعنى البعيد لتوقيفه، هل يكون التوقيف مثلاً احترازاً لعدم توقيفه من قبل الأنتربول أو نتيجة الضغوط الدولية؟ طبعاً لا بد من بعض الانتظار، لكن من المفيد ألا يعوّل اللبنانيون كثيراً على توقيف سلامة، فما أكثر القضايا التي فُتحت ملفاتها ثم أُقفلت، بالتواطؤ، أو بالقوة والترهيب.

كان رياض سلامة داهية، لكنه لم يكن متعففاً كالحاكم السابق إدمون نعيم، كان يحب المال وحياة الرفاهية له ولعائلته والمقربين منه، استغل موقعه ليزيد ثراءه ثراءً، وأقام شبكة علاقات مع السياسيين يستظلها لتأمين حماية مستقبلية. كان فعلاً داهية لكنه لم يكن يدرك مع أي صنف من الدهاة يعمل. صحيح أنه يملك من الأوراق والوثائق ما يفجّر بدل الفضيحة عشرات الفضائح، لكن في بلد كلبنان يمسح الناس وسخهم بالوثائق، والشعب المبتهج بتوقيفه والساخر من صورته مخفوراً لن يفعل الشيء نفسه مع زعمائه حتى لو أثبتت وثائق سلامة إدانتهم.

لن يعيد توقيف سلامة أموال المودعين، ولا عشرات المليارات التي هرّبها أصحاب المصارف والسياسيون ومن عرفوا بأمر الأزمة قبل وقوعها، ولا مئات الملايين التي نهبها التجار وكبار المستوردين والمهربين الذين نهبوا أموال الدعم للسلع الأساسية، فـ"الذي ضرب ضرب واللي هرب هرب". توقيف سلامة خطوة رمزية إذا بقيت وحيدة ولن تُحسب إنجازاً لقضاء ينام على مئات الفضائح المقفل عليها في الأدراج لأسباب سياسية وطائفية.

إن غداً لناظره قريب وقد ينقذ شركاء سلامة شريكهم.