علي حمادة

لم تكن زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أنقرة يوم الأربعاء الفائت حدثاً عادياً ولا عابراً. إنها حدث كبير بالمعنى الجيوسياسي الراهن، سواء أكان بالنسبة إلى مصر أم بالنسبة إلى تركيا. فالبلدان يتقاسمان الحدين البحريين الشمالي (تركيا) والجنوبي (مصر) لحوض شرق البحر الأبيض المتوسط، ويجمعهما تاريخ مشترك طويل كانت آخر فصوله البارزة مرحلة ما بين 1516، تاريخ انتصار السلطان العثماني سليم الثاني على السلطان المملوكي قانصوه الغوري في موقعة مرج دابق، و1798 تاريخ الغزو الفرنسي لمصر، أي ما يقارب ثلاثة قرون متتالية.

وبالطبع، استمر التأثير العثماني بعاداته وتقاليده، وإن بدرجات أقل، حتى 1882 تاريخ بدء الاحتلال البريطاني لمصر. وزال نهائياً مع انهيار السلطنة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى عام 1918.

ومن المهم ملاحظة أمرين، الأول أن مصر وتركيا تشكلان أكثر دول الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط تعداداً للسكان. مصر أكثر من 110 ملايين نسمة، وتركيا حوالى 90 مليوناً. والغالبية الساحقة من سكان البلدين من المسلمين السنة. من ناحية أخرى تتحكم مصر بقناة السويس التي تربط بين شرق آسيا وأوروبا، فيما تتحكم تركيا بمضيق البوسفور الذي يربط بين البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط ويعتبر رئة بحرية لروسيا لا يمكنها أن تستغني عنها. بهذا المعنى ثمة تشابه في الموقع وتقاسم بين البلدين في بعض مراحل التاريخ، ودور متقابل عند الواجهتين الجنوبية الشرقية والشمالية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.

وبالعودة إلى العقد الخير من تاريخهما المشترك، يمكن القول إنه اتسم بخلاف عميق بين الدولتين، لا سيما بعد انهيار مرحلة حكم "الإخوان المسلمين" في مصر في أعقاب ثورة 30 حزيران (يونيو) وسقوط حكم الرئيس محمد مرسي، وتبوّء الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الخارج من المؤسسة العسكرية مقاليد السلطة، لا سيما أن تركيا بقيادة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان خاضت حرباً سياسية وإعلامية وأمنية ضد الحكم في مصر انتقاماً لسقوط حكم الإخوان في مصر، إلى أن بدأت بوادر التهدئة والتقارب تلوح في الأعوام الثلاثة الماضية، إذ استدارت أنقرة في سياستها الإقليمية، لا سيما مع الدول العربية الوازنة، وبدأت مساراً تصالحياً مع مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وقد سارت عملية التقارب وتجاوز الخلافات بخطى متتابعة إلى أن تمكنت أنقرة من ترتيب علاقاتها مع العالم العربي. وبالنسبة إلى مصر يمكن القول إن زيارة الرئيس المصري أنقرة والحفاوة الكبيرة التي أظهرها الرئيس التركي، خصوصاً أنه خرق البروتوكول الرئاسي مرتين لإظهار مدى أهمية زيارة رئيس جمهورية مصر العربية بالنسبة إلى بلاده وإليه شخصياً. فقد كان في استقباله ووداعه في المطار، بشكل أراد أن يرسل عبره برسالة خاصة إلى مصر: إن أنقرة دفنت الخلافات، وفتحت صفحة جديدة مع القاهرة، وإن مرحلة الخلافات باتت وراء البلدين، وإن زيارة الرئيس أردوغان القاهرة في شهر شباط-فبراير الماضي وزيارة الرئيس السيسي هذا الأسبوع تحملان جملة مدلولات في المشهد الجيوسياسي الإقليمي في مرحلة من أخطر المراحل التي تمر بها المنطقة منذ عقود. فثمة ملفات عدة يتقاسم الطرفان الاهتمام بها نظراً إلى موقعهما، وإلى دورهما، وإلى أهميتهما كقوتين إقليميتين تسعيان إلى حجز موقعيهما على خريطة المنطقة مع تفاقم الأزمات التي انزلقت إليها قوى إقليمية أخرى، أولها إيران وثانيها إسرائيل، فضلاً عن التصعيد الكبير في الضغوط المتبادلة بفعل حروب الوكالة التي تدور على أرض المنطقة من حدود إيران مع باكستان إلى شمال أفريقيا، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين (حرب غزة) والسودان وليبيا والصومال.

ومن الناحية العملية، يمكن القول إن المنطقة تعيش على فوهة بركان، وقد شكلت حرب غزة مع عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة "حماس" تحدياً خطيراً لكل القوى الإقليمية الطامحة إلى حجز مواقعها على الخريطة العالمية. فبين مصر وتركيا، كما أسلفنا، ملفات عدة ويتعين أن تعملا معاً في سبيل الحفاظ على مصالحهما وسط هذا الصراع المميت القائم اليوم على أرض غزة، والضفة الغربية، وبقية "الساحات" الخاضعة للنفوذ الإيراني، من العراق إلى سوريا ولبنان وصولاً إلى اليمن. ومصر من أكثر الدول التي تضررت من حرب غزة التي لم يعد الإيرانيون يخفون دورهم الرئيسي في إشعالها بهدف خلط الأوراق الدولية والإقليمية، ولو كلف الأمر التضحية بمئات الآلاف من الفلسطينيين في حرب غير متكافئة، ما يعني أن من مصلحة مصر كما من مصلحة تركيا الواقفة عند تخوم حربين عالميتين، الأولى شرق أوكرانيا بين الغرب وروسيا، والثانية في قلب المثلث الفلسطيني - اللبناني – السوري التلاقي معاً لمواجهة التحديات التي تواجههما.

والحديث اليوم يدور حول توصيف المرحلة الدولية، هل هي حرب باردة جديدة، أم أنها حرب عالمية بجبهات وأطراف متعددة؟ ومصر وتركيا تعانيان تبعات هذا الواقع واقتصاداهما واقعان تحت ضغوط هائلة، وتحدياتهما كبيرة، بخاصة بالنسبة إلى مصر التي تنظر بقلق إلى الحرائق المتناسلة حولها، من غزة التي دمرت عن بكرة أبيها، إلى ليبيا التي لا تستقر على حال، إلى السودان الذي أُغرق في حمام دم، وصولاً إلى القرن الأفريقي حيث مشروع سد النهضة الإثيوبي الذي يهددها بالعطش والشح، والآن الصومال الموغل في الانقسام والتشظي والمهدد بحرب أهلية قادمة لا محالة. كلها تحديات ومخاطر كبرى على الكيان المصري. وكلها ملفات وضعت على طاولة المحادثات بين الرئيسين المصري والتركي. فتركيا الباحثة عن أدوار إقليمية باعتبارها قوة إقليمية صاعدة، تتقاسم مع مصر اهتمامات وأدواراً في ليبيا والسودان والقرن الأفريقي، وحتى في سوريا حيث مشروع المصالحة بين أنقرة ودمشق يسير بخطى متسارعة من خلال الوسيط الروسي، وبدرجة أقل الوسيط الإيراني الأقل حماسة مخافة أن تتراجع سطوته في الساحة السورية.

والحال أن البحث في تعزيز التعاون في الصناعات العسكرية، ورفع مستوى التبادل الجاري من 7 مليارات دولار سنوياً إلى 15 ملياراً في أقل من عام، يدل إلى رغبة الطرفين في إبرام تفاهمات أكبر من المظاهر البروتوكولية. فبعدما طُوي موضوع تنظيم "الإخوان المسلمين" كعقبة كأداء أمام تحسين علاقة البلدين، بات من الممكن الذهاب إلى أبعد في وقت يبدو فيه أن حرب غزة التي يتشاطران الموقف عينه بالنسبة إلى ضرورة إنهائها فوراً، هذه الحرب طويلة، ومختلفة تماماً عن الحروب التي سبقتها. وقد تقاطعت عندها حروب أخرى متوسطة المستوى والعنف، ولكنها تستنزف المنطقة بأسرها. ومصر التي تعاني على صعيد قناة السويس تعرف أن استمرار هذه الحرب سيؤدي إلى كارثة كبيرة في المنطقة. كما أن تركيا التي تحاول ترتيب الملف السوري مع روسيا تعرف تماماً أن الفشل في إقامة نوع من التفاهمات مع روسيا والولايات المتحدة (الضامنة ورقة الكرد) أنها ستعاني، ليس من حدود سوريا المكلف جداً ضبطها من طرف واحد، لكن من إيران المتغلغلة في الجسم السوري وستشكل يوماً ما خطراً كبيراً على وحدة الأراضي والشعوب في تركيا.

إن زيارة الرئيس المصري أنقرة أعلنت انطلاق مرحلة جديدة ومختلفة في العلاقات بين البلدين، عنوانها مصالح الطرفين في ملفات عدة تتطلب البراغماتية في التعامل معها. والأهم أن القاهرة وأنقرة يهمهما عدم العودة إلى الوراء.