أزراج عمر
كيف يقيّم المحللون السياسيون الجزائريون نتائج الانتخابات الرئاسية الجزائرية التي جرت في 7 أيلول (سبتمبر) الجاري، وفاز فيها المرشّح الحرّ عبد المجيد تبون بنسبة كاسحة قُدّرت رسمياً بنسبة 94.65%؟ وما السبب الذي أدّى إلى حصول مرشّح حركة مجتمع السلم حساني شريف عبد العالي على نسبة 3.17%، وحصول مرشّح جبهة القوى الاشتراكية يوسف أوشيش على نسبة 2.16%، علماً أن إجمالي عدد الأصوات المعبّر عنها في هذه الانتخابات بلغ 5,630,196 صوتاً، إذ حاز تبون على 5,329,253 صوتاً، وحاز عبد العالي على 178,797 صوتاً، في حين حاز أوشيش على 122,146 صوتاً؟
ماذا يعني فشل حزب إسلامي بحجم حزب حركة مجتمع السلم (حمس)، الذي ما فتئ يعتبر نفسه الممثل الأبرز للتيارات الإسلامية المتعدّدة في الساحة السياسية الجزائرية، على الرغم من الاختلافات البسيطة بينها من حيث الأسلوب والمنهج، غالباً وفقط؟ وماذا يعني أيضاً سقوط حزب القوى الاشتراكية (الأفافاس) الذي قدّم نفسه على مدى سنوات طويلة أقدم حزب يساري جزائري تأسس بعد استقلال البلاد في عام 1962، وقطباً يزعم أنه يمثّل التيار العلماني، علماً أن مؤسسه حسين آيت أحمد من أصول المرابطين، تحدّر من عائلة متديّنة بأعالي منطقة جرجرة الأمازيغية؟
وكيف نفهم تصريح المرشّح الحرّ عبد المجيد تبون أمام ملايين المواطنين، أن عهدته الثانية ستكون مكرّسة للاقتصاد؟ وفي هذا الخصوص، يأمل عددٌ من الشخصيات السياسية الجزائرية المحايدة ألّا يؤدي هذا التوجّه إلى اعتبار مسائل الهوية وكتابة التاريخ والمنظومة التعليمية والثقافة والعلاقات الدولية والإقليمية قضايا ثانوية، علماً أن معالجتها بجدّية أمر ضروري يضمن التماسك الداخلي والأمن والاستقرار في البلاد.
في البداية، ينبغي التوضيح أن الخبراء المتخصصين الجزائريين في الشأن السياسي الوطني لم تفاجئهم نتائج الانتخابات التي جرت في 7 أيلول الجاري، وأعلن عنها في 8 منه، لأسباب كثيرة متبادلة الاعتماد والتأثير.
معروفٌ أن المواطنين الجزائريين زهدوا بالمشهد الحزبي الجزائري منذ سنوات، ولم يعودوا يؤمنون بالأحزاب التي كرّست موضة الظهور في مواسم الانتخابات أو عند تقسيم كعكة المناصب مع السلطات التي تتحكّم فعلياً بجميع أجهزة الحكم وتوظفها كما تشاء. والحال، فإن تجربة التعددية الحزبية الجزائرية لم تترجم منذ السماح بإنشاء الأحزاب في ثمانينات القرن الماضي بالتحوّل إلى تعددية سياسية ناضجة ذات مشروع وطني حداثي نموذجي يُغري الجيل الجديد من الشباب، بل تحولت الأحزاب الجزائرية إلى مجرد "وكالات" تتسابق إلى موالاة السلطة والاكتفاء في الغالب بالمعارضة الشكلية المتخصّصة في مساومة النظام الحاكم على المناصب مقابل هذا التنازل أو ذاك.
في هذا السياق، يرى عددٌ لا يُستهان به من المراقبين السياسيين الجزائريين أن حزب القوى الاشتراكية الذي جاء في المرتبة الثالثة في هذه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وحصل على عدد مجهري من الأصوات لا تملأ ملعباً لكرة القدم، لم يتحوّل من حزب شللي ذي طبيعة متردّدة كرّست نزعة التوفيقية بين متناقضات الرأسمالية والليبرالية وبين بقايا أفكار الاشتراكية الغارقة في التقليدية، والتي لا تملك هوية عقائدية وطنية، إلى حزب مشبع بمبادئ جامعة وقادرة على لمِّ شمل فسيفساء فصائل اليسار الوطني التقليدي المبعثر.
في الحقيقة، تخلّى حزب القوى الاشتراكية (الأفافاس) في السنوات الأخيرة وبشكل ملحوظ، عن ركائز مبادئ حركة التحرّر الوطني ذات الصلة بالعدالة الاجتماعية ومحاربة كافة أشكال التغوّل الرأسمالي المحلي، والمستورد في شكل أدبيات الفكر السياسي الغربي الذي تجاوزه العصر، بل قبل باستبدال الخيار الاشتراكي بالخيار الرأسمالي المكرّس للتفاوت الاجتماعي. ورغم ذلك، بقي يُظهر نفسه أمام المواطنين بأنه لا يزال يرفع شعار "الاشتراكية" عنواناً لاسم الحزب وأيديولوجيته.
في الواقع، تنازل حزب "الأفافاس" أيضاً عندما وافق الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة على الترشّح للعهدة الرابعة التي كانت النواة الأولى لحكم الفرد وإلغاء التعددية السياسية، الأمر الذي انتهى بانفجار حراك شعبي تسلّلت إليه عناصر انتهازية كادت أن تقسّم الجزائر إلى "كانتونات" متصارعة. وأكثر من ذلك، فإن حزب القوى الاشتراكية (الأفافاس) شهد بعد وفاة مؤسسه، الذي يعدّ واحداً من رموز حركة التحرّر الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسي وهو حسين آيت أحمد، انقسامات عصفت بوحدته المزعومة جراء تطرّف الطموحات الفردية لبعض قيادته، التي صارت تصنّف حالياً جزءاً من المعارضة التي لا تملك قاعدة جماهيرية حقيقية تستند إليها على مستوى الجزائر العميقة.
إن عدم انفتاح حزب "الأفافاس" على تنوّع التيارات السياسية الوطنية ذات التوجّه المناهض للرأسمالية التي تنهش المواطنين، وعلى استقطاب الكفاءات الفكرية الوطنية ذات المكانة المحترمة ضمن الوجدان الشعبي، جعل الهيئة القيادية لهذا الحزب، على مستوى هرمه الأعلى وبنيته التنظيمية المركزية والولائية عبر محافظات الوطن، يبدو عاجزاً عن الاستقطاب ووحيداً ومعزولاً على مدى سنوات طويلة، الأمر الذي كرّس داخل أروقته ظاهرة الزعامة الفردية والولاءات الشخصية، وبالتالي عصاب الانتماءات العشائرية... وهلمّ جرّا.
في الواقع، ما حدث ويحدث داخل أروقة حزب القوى الاشتراكية يُشبه أوضاع الحزب الإسلامي المدعو حركة مجتمع السلم (حمس). فهذا بدوره فشل في توحيد صفوف الأحزاب التي تشبهه أيديولوجياً، قليلاً أو كثيراً، كما تحوّل إلى "قلعة" مصفّحة تحتكرها مجموعات تُعيد إنتاج بعضها بعضاً، وتتناسل لديها الأفكار التقليدية نفسها التي لا علاقة لها بواقع الشباب الذي يشكّل 70% من تعداد الشعب الجزائري.
في هذا السياق، يرى محللون سياسيون جزائريون أن فوز المرشّح الحرّ عبد المجيد تبون بالانتخابات الرئاسية، ووصوله للمرّة الثانية إلى سدّة الحكم في أعالي منطقة المرادية، يعني أمرين اثنين مترابطين: بداية تلاشي أحزاب المعارضة تدريجياً وضمور الاهتمام الشعبي بالسياسة كخطب وشعارات؛ وبروز ظاهرة اصطفاف جيل الشباب وراء المرشّح الحرّ الذي يحلّ له مشاكله المستعصية، مثل البطالة وصعوبات التوظيف، وأزمة السكن، وضعف الدخل المالي الذي يتناقض مع المصاريف اليومية، وسوء أحوال الخدمات الاجتماعية الأخرى التي أصابها الكساح كالتقاعد المجهري والمواصلات والاتصالات، والأمن الداخلي والخارجي معاً.
التعليقات