حتى بمعايير الشرق الأوسط، كانت السنة الماضية حبلى بالمفاجآت؛ فقد تسبب هجوم مباغت لم يتوقعه أحد شنته جماعة «حماس»، في أشد الأيام دموية لليهود منذ المحارق النازية (الهولوكوست). اليوم، استمرت الحرب التي تمخضت عن هذا الهجوم بين إسرائيل و«حماس» لفترة تفوق تقريباً ما تخيله أي منا.

من جهتها، شنَّت إيران ربما أضخم هجوم صاروخي وبالمسيّرات في التاريخ ضد إسرائيل، والذي جرى التصدي له عبر مستوى غير مسبوق.

ومع ذلك، فإنَّ المفاجأة الكبرى التي تمخَّض عنها الصراع تنذر بسوء بالغ للنظام العالمي: جماعة راديكالية تعد شبه دولة لم يسمع عنها الأميركيون قَطّ من قبل، هم الحوثيون في اليمن. وقد شكلت هذه الجماعة التحدي الأخطر لحرية التنقل عبر البحار منذ عقود، وربما تكون قد هزمت في طريقها قوة بحرية كبرى أصابها الإنهاك.

وبدأ الحوثيون حملتهم ضد نشاطات الشحن عبر مضيق باب المندب، الواصل بين البحر الأحمر وخليج عدن، أواخر 2023. واسمياً، يشنُّ الحوثيون هذه الهجمات بدافع تعاطفهم مع الشعب الفلسطيني، لكن يتمثل هدفاً آخر في كسب مكانة أكبر داخل ما يطلق عليه «محور الممانعة»؛ مجموعة من القوى الشرق أوسطية التي تعمل بالوكالة لصالح إيران.

في يناير (كانون الثاني) استجابت واشنطن بشن عملية «تحالف حارس الازدهار»، التي شهدت جهوداً دفاعية (في معظمها من جانب مدمرات أميركية) لحماية نشاط الشحن من المسيّرات والصواريخ، وكذلك شن ضربات جوية ضد القدرات الهجومية للحوثيين داخل اليمن. أما النتائج، فجاءت متوسطة على أفضل تقدير.

الملاحظ أنَّ هذه الملحمة ضمَّت عناصر قديمة وأخرى جديدة. الحقيقة أن مضيق باب المندب لطالما شكَّل نقطة صراع. ويحيط بهذا الممر الضيق حالة من عدم الاستقرار في جنوب شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي. واستدعى هذا الموقف صراعات وتدخلات أجنبية على مدار عقود، لكن في الوقت ذاته تكشف حملة الحوثيين مشكلات عالمية جديدة.

من بين هذه المشكلات، تراجع تكلفة استعراض القوة. المعروف أن الحوثيين ليسوا قوة عسكرية تقليدية، ولا يسيطرون على اليمن بشكل كامل. ومع ذلك، نجحوا في الاستعانة بمسيّرات وصواريخ للسيطرة على القدرة على الوصول إلى البحار الحيوية.

وقد حظي الحوثيون ببعض العون في ذلك؛ فقد أمدتهم إيران بالأسلحة والمعرفة الفنية اللازمة لتصنيعها. وتكشف أزمة البحر الأحمر كيف أن عناصر تبدو صغيرة يمكنها، بالاعتماد على قدرات زهيدة التكلفة نسبياً، توسيع نطاق نشاطاتها التدميرية.

يتمثل ملمح ثانٍ في التآزر الاستراتيجي بين أعداء الولايات المتحدة. لقد زادت قوة الحوثيين بفضل دعم إيران وجماعة «حزب الله» لهم. منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، سمح الحوثيون بمرور غالبية السفن الصينية دون أن يمسها أذى. كما تلقى الحوثيون تشجيعاً - وعلى ما يبدو، دعماً مباشراً - من روسيا، التي تبدو متلهفة للانتقام من واشنطن.

واليوم، تجني بكين وموسكو ثماراً جيوسياسية في وقت تتحمل واشنطن أعباء الصراعات المستعرة بالشرق الأوسط. وعليه، تبدي بكين وموسكو استعدادهما للسماح لهذه الأزمة بالاستمرار، بل وربما التفاقم. وما يزيد تفاقم الأمور ملمح ثالث يكمن في نفور أميركا من التصعيد، الذي يضرب بجذوره في نشرها قوتها العسكرية على نطاق مفرط في الاتساع. لقد انحسر دور قوة عظمى في تبادل الضربات مع مجموعة من المتطرفين اليمنيين.

وتكمن القضية المحورية هنا في أن واشنطن ترددت حيال اتخاذ إجراءات أقوى، مثل إغراق سفينة استخباراتية إيرانية تدعم الحوثيين، أو استهداف البنية التحتية الداعمة لحكمهم في اليمن؛ خوفاً من إشعال التوتر بالمنطقة.

وكان من شأن هذا التوجه تقليص مخاطر التصعيد على المدى القصير، لكنه سمح لطهران والحوثيين بإبقاء الصراع مستعراً حسب درجة الحرارة التي يفضلونها. كما يعكس ذلك الإنهاك الذي تشعر به القوات الأميركية التي تفتقر إلى عدد كافٍ من صواريخ «كروز» والقنابل الموجهة بالليزر والطائرات الهجومية والسفن الحربية اللازمة لتنفيذ حملة أقوى دون تعريض جاهزيتها لخوض صراعات أخرى، للخطر.

وهنا، يظهر ملمح رابع: انحسار قواعد المجتمع الدولي التي لطالما اعتبرناها أمراً مضموناً. في الواقع، لقد جاء الضرر التجاري العالمي الذي سببه الحوثيون محدوداً، بفضل مرونة شبكات الشحن التي يعتمد عليها العالم وقدرتها على التكيف مع المتغيرات. ومع ذلك، تبقى هذه السابقة أمراً مروعاً؛ لقد قوَّض الحوثيون حرية الملاحة عبر البحار داخل منطقة حيوية، وفي المقابل تكبدوا ثمناً زهيداً للغاية.

الملاحظ أن حرب روسيا في أوكرانيا تقوِّض مبدأ آخر مهماً، والذي يرتبط برفض الغزو بالقوة. اليوم، تتحدى قوى رجعية القواعد العالمية التي تدعم الرخاء والأمن والاستقرار بعالم ما بعد 1945.

وربما لا تكون واشنطن على وشك تصحيح هذا المسار على نحو دراماتيكي. اليوم، ما يزال الرئيس جو بايدن يطارد طيف اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس»، الأمر الذي سيحرم الحوثيين وعملاء إيران الآخرين، على الأقل، من الذريعة التي يبررون بها العنف من جانبهم، حتى ولو كان من غير المضمون أن ينهي ذلك الهجمات ضد الشحن بالبحر الأحمر.

ويأمل بايدن في بلوغ الانتخابات الرئاسية دون إشعال مزيد من المشكلات مع طهران. إلا أن هذا الأسلوب المتخبط قد لا يستمر لفترة طويلة. وبغض النظر عمن سيفوز بالرئاسة عام 2025، فإنه سيواجه حقيقة أن أميركا تخسر الصراع الدائر في البحر الأحمر، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات عالمية محتملة.

* زميل في معهد «أميركان إنتربرايز»

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»