حسين الراوي

‏يوم الخميس 12 سبتمبر 2024، اتجهنا أنا وأحد الأصدقاء الرائعين من صلالة إلى قرية شعت التي تبعد نحو 75 كيلو متراً.

لما فرغنا من الاستمتاع بعلو مطل شعت، (فكرنا) أن نتجه إلى شاطئ فتك، وهو الشاطئ الذي لم أزره من قبل، لكن رأيت عنه فيديوهات وصوراً جميلة جداً.

وفي أول بدايات تحركنا نحو شاطئ فتك، وقبل أن نكون على مسار الدرب الجبلي الضيّق جداً وُلد في قلب صديقي شيء ملحوظ من التردد والقلق! على الرغم من أن صديقي يعرف الدرب جيداً وزار ذلك الشاطئ من قبل.

قال لي صديقي: ما رأيك أن نتجه إلى مكان آخر، إن الدرب المؤدي للشاطئ ضيّق ووعر وفيه بعض الصخور وبعض المنحنيات، والذهاب يستغرق ما بين 40 دقيقة إلى 60 دقيقة وكذلك العودة!

سألته: هل أنت قلق على صحتي؟

قال على الفور: أجل، أخشى عليك من الدوخة والدوار والضجر، والرطوبة والضباب الذي سوف يصادفنا في الطريق.

سألته: هل ترى أن سيارتنا هذه (4 سلندر) سوف تتحمل صعوبة الطريق؟

قال: أنا أشك كثيراً في ذلك!

قلت: دعنا نُجرّب بداية الدرب، وعند مواجهتنا لأي صعوبة سوف نرفع الراية البيضاء وننسحب بهدوء وسلام ونعود.

قال: حسناً، أعطني فنجان قهوة، قهوتك هذه لا أشرب مثلها إلا معك، شربت القهوة العربية كثيراً لكن قهوتك التي تُحضرّها بنفسك لا أجد لطعمها شبيهاً.

قلت: لقد أهديتك من ذات القهوة في الشهر السابق، ألا تذكر؟ قال: أنا لم أنس قط، لكنك تصنع القهوة بشكل مختلف!

فأمسكت بمطارة القهوة وسكبت له فنجاناً، ثم قدمت له وعاءً به تمر لونه ممزوج بين اللون الذهبي والأحمر المُشِع، كانت التمرة مذاقها ليس بالحار المُعطش ولا بالحاد المؤذي، من رقتها تذوب سريعاً بالفم دون أن تُمضغ، فتختفي وتبقى حلاوتها في الذاكرة، إلى أن تعقُبها رشفة عظيمة باهية من سائل القهوة الأسطوري، فتمتد الرشفة كامتداد الموج إلى مساحات الذوق في فم، فلا يسعك إلا أن تغمض عينيك وأنت تهز رأسك وتقول: يا الله!

الطريق إلى شاطئ فتك كان مُملاً وضيّقاً ووعراً وطويلاً نسبياً، وكنا نصادف أحياناً سيارات أخرى عائدة من الشاطئ، نلتقي معها وجهاً لوجه، ما يضطرنا للتوقف قليلاً لكيّ نتعاون في ما بيننا لتمرير سيارتنا بشكل جيد على ذات الطريق الصعب دون تصادم.

في منتصف الدرب واجهتنا الأبقار والإبل رغم ضيق ووعورة الدرب! وواجهنا الضباب والرطوبة! وواجهتنا بعض الصخور الكبيرة نسبياً التي حرفت قليلاً اتجاه سيارتنا يميناً وشمالاً!

في منتصف الدرب واجهنا سائحاً عربياً، كان يقود سيارة جيب دفع رباعي، سألته عن الدرب؟ فقال الدرب وعِر جداً! فقلت له: هل تنصحنا بالعودة؟ قال دون تردد: نعم، أنصحكم بالعودة، لأن سيارتكم هيكلها منخفض، وليست عالية عن الصخور المؤذية! ثم التفت نحوي صديقي وقال: ما رأيك؟ قلت: نكمل الدرب وننسحب عندما نضطر للانسحاب.

وبعد مسار متعب بدأنا ندخل منطقة الشمس، وبدأت تُلامسنا أشعتها التي أزاحت الرطوبة والضباب، ففرحنا برؤية بعض الصيادين الذين كانوا يصطادون السمك من على جنبات سفح الجبل العالي المطل على البحر.

نزلنا من السيارة وصافحناهم، ورحبوا بنا وقدموا لنا الشاي اللذيذ المُحضر على الحطب.

ثم واصلنا المسار، وبعد ما يقارب من 20 دقيقة تجلى لنا الشاطئ العظيم، شاطئ فتك الساحر المدهش! ففرحنا فرحاً شديداً وكأننا في صباح العيد الباكر.

وفور أن أوقفنا سيارتنا بجانب الجبل بالقرب من الشاطئ، نزعت فانيلتي عن جسدي وأخذت أركض نحو مياه البحر الزرقاء الصافية، وكنت أسمع ضحكات صاحبي تتعالى، ثم ألقيت بنفسي على الأمواج، وتركت مياهها الباردة ذهاباً وإياباً تمر فوق جسدي لتغسله من التعب والإرهاق والملل.

يا الله... ما هذا الشاطئ المملوء بسحر الدهشة؟!

ما هذه الأمواج الصافية النظيفة؟!

ما هذا الهواء الطهور ذو النسمات الباردة؟ ما هذا الجبل الرائع المقابل للشاطئ الذي وصلت مياه البحر لأسفله فصنعت (سرداباً) مائياً تحته!

وبعد أن التقطنا فيديوهات وصوراً عديدة، جلسنا نتحدث أنا وصاحبي ونحن نتبادل فناجيل القهوة، ومستمتعين بالغيوم والبحر والأجواء والهواء والشاطئ والأمواج بشكل أسطوري.

لقد تمنيت بحق ولهفة، لو أنني جلبت معي خيمة بعمود أو اثنين مع أثاثها البسيط، وسراجاً أو سراجين للنور، مع قليل من الحطب وشيء قليل من الطعام والماء، فنسهر في ذلك الشاطئ تحت تلك السماء التي تشرّب لونها لمعان سطوع النجوم الكثيرة المتلألئة، وفوق الرمال الأنيقة وحصى البحر الطاهرة، في ليل يغشى لحظاته الهدوووووء، بعيداً عن ضجيج المدينة وزحام الأجساد والسيارات، وثرثرة الأفواه، وبعيداً عن المباني والأضواء.

وبعد ما يزيد على الساعتين، قال لي صاحبي: هل أنت سعيد؟ قلت له: بالتأكيد. قال: هل أنت مستعد لصعوبة ووعورة وضجر وملل طريق العودة؟ قلت له: بالطبع، لقد عبأت ذاكرتي وروحي ومزاجي من هذه اللحظات العظيمة، وهذه التعبئة سوف أستخدمها كبطارية شحن عالية الجودة ذات سعة كبيرة، أمام كل مساوئ الطريق المُتعبة.

في العودة تسلّمت قيادة السيارة، فكنت أسرع وأجرأ من صاحبي في قطع مسافات الطريق، وكنت أمر بمحاذاة الصخور الكبيرة بقدر من السرعة منحازاً لحافة الطريق مرّة يميناً ومرّة شمالاً، وصاحبي كان يكرر على مسامعي: توقف، دعني أقود السيارة!

لكن دوخة الرأس ولوعة الكبد وغروب الشمس لم تتركني أكمل قيادة السيارة على الرغم من أنه لم يتبق على نهاية الطريق إلا القليل جداً، حيث توقفت بالسيارة، وطلبت من صاحبي أن يتولى القيادة مشكوراً.

بعد أن وصلنا لصلالة وتناولنا العشاء، اتجهت إلى السرير فوراً في الساعة الثامنة مساءً، فنمت نومة لن أنساها ما حييت من شدة التعب!

ما أجملك يا سلطنة الحُب عُمان.