أحمد برقاوي
تنظر الفلسفة إلى كل ما يصنعه الإنسان على خلاف ما يمت إلى الطبيعة بأنه يعود إلى عالم الثقافة من صناعة المحراث اليدوي إلى الفلسفة، مروراً بكل أشكال الإبداع المادي والروحي، فالجبل طبيعة والنفق الذي شقه الإنسان ثقافة، والأصوات طبيعة لكن الموسيقى ثقافة وهكذا.
لكنها أي الفلسفة تميز بين الثقافة المادية والثقافة الروحية، فالثقافة المادية هي كل ما له علاقة في إنتاج الخيرات المادية وصناعتها، من المصنع إلى القمر الصناعي والثقافة الروحية من عادات وقيم ومعتقدات وصنوف الإبداع المختلفة، ونحن نميز في الثقافة الروحية بين الثقافة الموضوعية المرتبطة بالعادات والمعتقدات والأعراف المختلفة والقيم السائدة، التي ينشأ الفرد في أحضانها من جهة، وتتغير بتغير الأزمان، والثقافة الروحية الإبداعية، التي يخلقها المبدع، وهي ثقافة تصدر عن الفلاسفة والشعراء والرسامين والنحاتين والروائيين والمسرحيين والموسيقيين.
ويقوم الفرق بين الثقافة الروحية الموضوعية والثقافة الروحية الإبداعية في أن الثقافة الروحية الموضوعية ليس لها مؤلف، فهي ثمرة المجتمع، وتغيرها غالباً ما يميت قديماً ويخلق جديداً، بينما الثقافة الروحية المبدعة فهي ثقافة أفراد أولاً، وثقافة لا ينال منها الزمن.
لا تزال مسرحيات شكسبير تعرض في مسرح جلوب في لندن، ولا يزال الملايين يؤمّون متحف الإيرميتاج في سان بطرسبورغ واللوفر في باريس وغيرهما كثير، ولا يزال متذوقو الشعر يرون في قصائد المعلقات ذروة الشاعرية، وأكثر الناس تخلصوا من عادات الثأر.
يكمن الفرق بين قصيدة امرؤ القيس المعلقة، التي مطلعها قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، والتي يعود تاريخها إلى قبل ألفي عام من جهة، وعادات الثأر في عصره أو العصور اللاحقة من جهة ثانية، في أن القصيدة نص جمالي أخاذ يخلق المتعة الروحية، التي لا تبلى، فيما حرب داحس والغبراء وما ولدته من ثقافة ثأر متبادل عادة قديمة تسفك الدماء وأبدع المجتمع المحاكم وقانون العقوبات، وأصبحت من الماضي السحيق.
إن الفلاسفة والشعراء والرسامين والنحاتين والروائيين والمسرحيين والموسيقيين الحقيقيين هم من حيث الماهية المتمردون الأصلاء على العالم والواقع على اللغة والعقل واللون والحجر والنسيان، متمردون على العتيق والظلم والعبودية، وعلى كل من وما يسلب اﻷنا وجودها. إنهم منتمون إلى حركة اللاءات والممكن المتجاوز، إنهم الوجدان الملآن بالحب للحياة والطفولة والحزن والفرح بولادة الوجود. وإذا كان التاريخ عند هيجل: هو مسار وعي الحرية لذاتها، فإن هيجل نسي أن يقول إن هؤلاء المبدعين هم المظهر الأسمى لجوهر الحرية، ولهذا فإن جميع الأمم تخلد مبدعيها إما بنصب تذكارية، وإما بتماثيل في الساحات أو بالحفاظ على أماكن سكناهم، وتحويلها إلى متاحف، لتذكر مواطنيها بالعبقرية.
إن الغوغائيين الذين حطموا تمثال المعري ودحرجوا رأسه إنما قاموا بالاعتداء على العقل والجمال الشعري وروح المكان. إن التمرد هنا هو الإبداع ذاته فالفلسفة تمرد على العقل العادي بما تطرحه من أسئلة، الشعر تمرد على اللغة المألوفة بصوره الجمالية، والفن التشكيلي تمرد على اللون بتركيب ألوان الفكرة، والموسيقي تمرد على الأصوات بسلم الموسيقي، الذي يصدح على أنحاء مختلفة، وهكذا.
هذه الثقافة الروحية تسمو بالعقل والذوق والوجدان، وتهزم العنف القار في أعماق النفوس، وتحرر الذات من رتابة الحياة، وتنقلها إلى المتعة الروحية التي تتوارثها الأجيال.
ولأن الثقافة الروحية على هذا النحو من الأهمية فقد نشأت المؤسسات الثقافية، التي تعنى بكل أشكال الثقافة الروحية، وما من حكومة الآن من حكومات البلدان تخلو من وزارة للثقافة، ما من مدينة من مدن العالم تخلو من صالات عروض الفن التشكيلي، وما من بلد من البلدان يخلو من المتاحف، التي تعبر عن ثرائه الروحي، ومن حقنا أن ندق ناقوس الخطر جراء تغوّل عالم التقنية في حياتنا، وإيلاء الثقافة الروحية الاهتمام الضروري بعالم الأطفال وتربية حسهم الجمالي ومواهبهم الإبداعية.
التعليقات