"إنَّ نعمة إبقاء الغدير محل خصومة ونزاع، شيد عروشاً، وجرأ الفقهاء على طلب السُّلطة بحجّة هم ورثة صاحب "الغدير"؛ وبهذا لو فكر المتحمسون للغدير، أنه قد تحقق، وحرمهم مِن هذه النِّعمة، لكانوا أول النَّاكرين النّاكثين لما اعتبر حقَّاً مهضوماً اليوم"


قبل البدء، تصلني رسائل، منها منفعلة لا تفهم منها غير القذف والتسقيط، وهذا لا يُجادل ولا يُرد عليه، ومنها موسومة بالعتب الذي لا يبرحه الودُّ: لماذا أكثرت في الكتابة عن مذهب دون آخر، وربّما السُّؤال نفسه وصلني مِن مؤيدين للنظام السّابق، في زمن المعارضة، لماذا الكتابة ضد البعث دون غيره، والجواب أظنه واضح، لا سبب غير التصدي للسلطة، والعبث بالبلاد، فإذا تصدى لها إسلاميو مذهب آخر، أو حزب غير البعث، كائن مَن كان، مِن الأبعدين والأقربين، ومن الموقع الأول، ما سكت عنه اللِّسان، وما جامله القلم.
كذلك يدور السؤال نفسه، لماذا هذه المواجهة الحادة مع الإسلام، عبر الكتب والفضائيات، والتشكيك في أصوله وتراثه، وتفشي الآراء الناقمة، أقول: ما كان ذلك يحصل لولا ما يريد فرضه "الإسلام السياسيّ"، فأنت تريد تتحكم بالنّاس، وتتصرف بهم بحاكمية أنت مخترعها، وتُغيب العقول، ولا تريد البحث عمّا اعطاك هذا الحقّ، فتصوروا المضرة التي قدمها الإسلام السياسيّ للإسلام نفسه؛ وها نحن نرى أسلمة البلاد واعتبار "الغدير" عيداً رسمياً، زيادةً على النزاع نزاعاً، والعمل على إِخضاع معاملات النَّاس لرسائل الفقهاء، والدفاع الشّرس عما يُعد في العرف الإنساني مِن الجرائم، بما يخص الطّفولة.
في البدء، أنَّ فكرة المقال رمتها في ذهني نقاشات مع الرَّاحل الباحث الجاد المتوقد فكراً، والمُهاب لتواضعه، الصّديق جودت القزوينيّ(تـ: 2023)، نقاشات كانت تجمع عادة بين الجد والهزل، بمناسبة النزاع الطائفي المستعر، و"الغدير" أبرز مقالة يدور حولها النّزاع، واعتبرنا هذا التّاريخ، الذي بين أيدينا لا وجود له، وأنَّ الأئمة قد استلموا السّلطة الفعليّة، وفق وصية الغدير، واحداً بعد واحد، بمعنى وصية الغدير قد نفذت، لكنَّ تبقى المدينة الفاضلة مِن مثاليات ونماذج أفلاطون! فماذا يترتب على ذلك؟!

مقدمة عن الغدير:
صُنفت مجلدات عظام في "وصية الغدير"، وربَّما أشهرها وأوسعها: "الغدير في الكتاب والسُّنة والأدب" للشيخ عبد الحُسين الأميني(تـ: 1971)؛ والغدير هو غدير خم، الذي خطب فيه النبي محمَّد خطبة الوداع(10 هـ)، وفيها عدة مسائل، منها ما حُصر بعنوان "الغدير"، ومَن اعتبره وصية سياسية تخص تولي السُّلطة ووراثتها، كما هو الحال عند الشّيعة الإماميّة، ومَن اعتبره يخص العلم والفقه مثلما هو الحال عند الزّيديَّة، ومَن اعتبره للتكريم، وهو ما قال به مؤرخو وفقهاء السّنة، جاء عند الإماميَّة: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللَّهم وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه، وأحب مَن أحبه، وأبغض مَن أبغضه، وأنصر مَن نصره وأعزَّ مَن أعزه، وأعن من أعانه"(المازندراني، شرح أصول الكافي).
لا ندخل في تفاصيل الوصية والحديث، فقد أُشبعت جدلاً وبحثاً، في الأزمنة كافة، وحتَّى من الإماميَّة مَن اعتبر هذا النّزاع مِن الماضي(المظفر، عقائد الإماميَّة)، وصارت الخلافة مثلما هي واقع حال، تولاها الأربعة بالتّرتيب، وبالأول والثاني(أبو بكر وعمر) قضي على حركات الرِّدة، ونجحت الفتوحات، في شتى البقاع، أي أصبح الإسلام أممياً بفضلهما، وعليّ كان داعماً، ثم حصل ما حصل من صراع على الخلافة، معطوف على ما كان بين الهاشميين والأمويين قبل الإسلام، حتَّى صورها إخوان الصَّفا(القرن الرّابع الهجري/ العاشر الميلاديّ) بأدق وصف: «اعلم أنَّ الإمامة هي أيضاً من إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء؛ قد تاه فيها الخائضون إلى حجج شتى، وأكثروا فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين فيها العداوة والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وأبيحت بسببها الأموال والدّماء، وهي باقية إلى يومنا هذا (القرن الرّابع الهجري) لم تنفصل، بل كل يوم يزداد الخائضون المختلفون فيها خلافاً على خلاف، وتتشعب فيها، ومنها آراء ومذاهب حتى لا يكاد يحصي عددها إلا الله»(الرسالة الأولى من الآراء والديانات (42 من الرسائل).

ماذا لو تحقق الغدير؟
دعونا مما حصل، فمَن يعتبر أن وصية الغدير لو نُفذت، لاستقرت السياسة وانتعشت الحياة، حتَّى نهاية الدُّنيا، وأسلوب الحكم سيكون بمقياس "المدينة الفاضلة"، لأنَّ الوصية إلهيّة، وبالتالي ما يتحقق هو مملكة الله، فالتتويج منه، وما دولة المهدي المنتظر المُؤملة، إلا لإعادة عجلة التّاريخ وتصحيح مسارها، بتحقيق ما جاء في وصية الغدير، ومعلوم أنّ الإمام المهدي يأتي ليبسط العدل المثالي، فهذا ما يريده الله، مِن وصيته لعليّ وأبنائه وأحفاده.
لكن دعونا نتخيل أنَّ وصية الغدير قد نُفذت وتطُبقت بشروطها الإلهيَّة، واستلم الإمام علي بن أبي طالب(اغتيل: 40 هـ) الحكم بعد النّبي مباشرةً، وخضع الجميع لحكمه، فماذا سيتأسس على قاعدة الغدير؟
بطبيعة الحال سيكون الحكم إلهيَّاً وراثياً، يتولاه عليّ وخلفاؤه مِن بعده، وهذا الذي ينكره آية الله الخميني(تـ: 1989) في كتابه "الحكومة الإسلاميَّة"، عندما قال: "ليس في الإسلام نظام ملكي وراثي، وإذا كان هذا نقصاً في اعتبارهم فليقولوا: إن الإسلام ناقص". بمعنى لو انتصر الحسين لأعاد الحكم بالبيعة والاختيار لا الوراثة. وحسب الحديث "الغدير" خصت الوصية عليّاً وليس أولاده، فكيف ذهبت إلى أحد عشر من أولاده؟ وهل له أن يجعلها وراثة إلى أبد الآبدين.
فإذا تولى عليّ الحُكم سيكون له ولي عهدٍ، وهو حسب تسلسل الأئمة، الذين أثبتهم الشيخ المفيد(تـ: 413هـ) في "كتاب الإرشاد في معرفة حجّج الله على العباد"، ويبدو أن هذا الكتاب هو المؤسس للإمامة بمعناها العقائديّ، فقد جاء على حجَّة كل إمام في ولاية عهد سلفه، حتى وصل إلى الثاني عشر؛ وبهذا سيكون الحُكم وراثياً.
لكن هل لو تحققت وصية الغدير سيبقى عدد خلفاء عليّ اثني عشر، وتظهر عقيدة الرجعة، وهكذا تظل الدُّنيا تُحكم بالاثني عشر حتَّى يوم القيامة، حسب ما جاء في الروايات(الصدر، تاريخ ما بعد الظُّهور)؟ وهل سيكون هناك مهديَّاً؟ وماذا عن نوابه أو سفرائه، والنواب والكذابين(الطوسيّ، كتاب الغيبة)؟ وهو حسب ما قرأنا في الكتب الخاصة بالمهدي- وجوده وغيبته وخروجه- أمر إلهي أيضاً، مثلما كان تتويج عليّ بن أبي طالب إلهي أيضاً. قد يُفسر ذلك بمؤامرة حصلت على التَّتويج الإلهي، فاجهضت "مشروع السَّماء".

ما مصير المهدوية وولاية الفقيه؟
لو تحققت الوصية، فما هو مصير المهدويَّة، التي شُيدت بعقيدتها ممالك، وهل سيستمر الحكم، حتى يومنا هذا في سلالة عليّ، التي توقفت عند الثاني عشر، من المنتخبين إلهيَّاً؟ لو حصل وعليٌّ تسلم السُّلطة، هل سيعم الإسلام الأرض كافة، وتُحكم مِن عاصمة الإسلام، بما فيها الصّين وأقاصي بقاع الأرض، فالوصية كونية وليست خاصة بشعب أو منطقة، ولا تكون هناك حروب ونزاعات مثلاً، حتى يوم الدّين؟
هل سيخلق الله في الناس حاسة الخضوع والقناعة بالأمر، الكل يسلم بالأمر الإلهيّ، لا أحداً يسعى إلى انتزاع السلطة مِن عليّ وبنيه؟ فهذا حقّه الإلهيّ، وهل يتم هذا بقدرة الله وقضاءه، أم بحنكة وحكمة السّياسة التي يُديرها عليّ بن أبي طالب وأولاده؟
ماذا عن المذاهب، هل سينفلق الإسلام إلى اثني أو ثلاثة وسبعين فرقة، مثلما تنبأ بها النبي نفسه، في حديث أقرته المذاهب كافة، وكلُّ مذهب اعتبر نفسه هو المذهب النّاجي؟ مع أنَّ المعتزلة وإخوان الصفا قالوا وأشاروا إلى أنَّ الله لا يتدخل في الطبيعة؛ والسياسة والحُكم جزء مِن الطّبيعة. إذن حسب هذا المنطق سيكون الاستقرار عاماً، لا حروب ولا معسكر شرقي وآخر غربي، للكرة الأرضية كافة، كأمر إلهيّ.
ماذا عن المرجعيات الدّينية، وأئمة المذاهب، بالتأكيد لو تحققت الوصية، وتولى عليّ الإمامة بعد النّبي مباشرة، لا تكون حاجة لوجود أئمة مذاهب، بل ولا مذاهب، بما فيها الإماميَّة. لكن ما هو المذهب الذي سيحمل عليّ عليه الناس؟ سيقولون الإسلام النّقي، مثلما أنزل على النّبي، وهل بتبدل الأزمنة واختلاف الأمكنة سيبقي هذا الإسلام النَقي، الخالي من المذاهب، أم وجود المذاهب أمر لابد منه؟ لكن عندما نتخيلها دولة الله، وحسب الوصية هي بالفعل هكذا، فلا نسأل كيف ولماذا؟ أي يتوقف العقل عن السؤال.
في ظل الحكم المنتخب مِن الله، نسأل عن مصائر الزعامات الكبرى، السياسية والدينيّة، نسأل عن الأفكار، التي طُرحت في كُتب "الآداب السّلطانيَّة"، وكُتب الخراج. كيف ستكون حياة علماء أو فقهاء المذاهب، وعدم تحقيق وصية الغدير قد فتحت لهم آفاق القيادة، وسبباً للنشأة؟ ما هو مصير النّظريات السياسية التي شُيدت على أساس "الغدير" كولاية الفقيه مثلاً؟
فلو تحقق الغدير ما قُتل الثلاثة الراشدين، وبينهم الموصى له بالإمامة، وما جاء الأمويون، وما قتل الحسين(61هـ)، وما حصل العباسيون على أسباب للثورة واستلام الحُكم لخمسة قرون، وما ثار ضدهم العبيديون أو الفاطميون، وما حصل الصفويون على فرصة للحكم باسم الغدير ودم الحُسين، وبطبيعة الحال لا وجود للعثمانيين، وقبلهم ما جاء البويهيون والسلجوقيون، وتسلموا زمام الحكم بالعراق وبلاد فارس، بل لا وجود للشيعة من الأساس، لأنَّ كلَّ نظرياتهم شيدت على "الغدير" وهضم حقّ صاحبه.
كذلك لا وجود لمذاهب سُنيّة، ولا عقيدة شيعية أو سنية، ولا أشعرية ولا معتزلية، لأنَّ الكلَّ ورد من الخلاف على الإمامة، فإذا ظلت الإمامة محصورة لعليّ، فلا يحتاج إلى شيعة ولا السُّنة، ولا ما تفرع منهما، لأنَّ النَّاس يعيشون في المدينة الفاضلة، التي لا نزاعات فيها ولا حروب ولا جدل، وهي نسخة مِن الجنَّة. غير أنَّ الأهم ما هو مصير أطنان المجلدات، التي تناولت النزاع في الإمامة، ناهيك عن الدِّماء والثورات، مثلما وصفها إخوان الصَّفا!
أترون ما أهمية "الغدير" لكلّ مَن ذكرنا، مِن مذاهب وفِرق ودول ومراجع؟ كانت حكايته سبباً لهذا الوجود الهائل، فحين يحتفل نظام أو جماعة به، يحتفلان فرحاً كونه سبب وجودهما، وإلا عليّ بن أبي طالب نفسه لم يحتفل به، ولا أولاده. فكروا جيداً بمصائر المؤسسات والدول التي جعلت "الغدير" لها قاعدة؟ بمعنى يُكتب تاريخ آخر ليس للمنطقة والإسلام إنما للكون أجمع.
أقول: إنَّ نعمة إبقاء الغدير محل خصومة ونزاع، شيد عروشاً، وجرأ الفقهاء على طلب السُّلطة بحجّة هم ورثة صاحب "الغدير"؛ وبهذا لو فكر المتحمسون للغدير، أنه قد تحقق، وحرمهم مِن هذه النِّعمة، لكانوا أول النَّاكرين النّاكثين لما اعتبر حقَّاً مهضوماً اليوم.