اضطرت طهران إلى أن ترسل على عجل إلى بيروت وزير الخارجية عباس عراقجي في 4 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري. كان الأمر جللاً يستحق مخاطرة الوزير للدخول إلى "ميدان حرب" تشنّ عليه إسرائيل الهجمات التي نالت من حزب الله، واغتالت أمينه العام، وقضت، منذ 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 على المئات من قياداته الميدانية والعليا. ولئن يُفترض أن قيادة الحرس الثوري ما زالت على تواصل مع الحزب، غير أن ضبابية في بوصلة قيادة الحزب دفعت طهران إلى الالتفاف على أي ارتباك والتوجه مباشرة إلى واجهات الدولة في لبنان. كان وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب، كشف في 3 من الشهر الجاري، في مقابلة مع قناة CNN الأميركية أن الأمين العام للحزب كان وافق، قبل يومين من اغتياله، على وقف إطلاق النار وعلى الخطة الفرنسية الأميركية في هذا الاتجاه. وكانت أنباء قد تحدّثت قبل ذلك عن أن تحوّلاً في موقف نصرالله دفع رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي إلى السفر إلى نيويورك، الشهر الماضي، للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن كان أعلن قبل ذلك عدم الحضور. لا يمكن الجزم في ما إذا كانت مرونة نصر الله هي نتاج تشاور مع إيران أم أن الأمر جاء وفق تقييم محلي بعد هجوم أجهزة النداء واللاسلكي في 17-18 أيلول (سبتمبر) الماضي الذي شنّته إسرائيل وأسقط آلافاً بين قتيل وجريح واعتبره نصرالله لاحقاً "ضربة كبيرة وقاسية". وقد يجوز تصديق فرضيّة اتّخاذ نصر الله موقفاً مستقلاً عن طهران بعد رواج كثير من الأنباء بشأن طلب الحزب من إيران التدخل ورفض طهران ذلك، ورواج أحاديث عن تبرّم داخل بيئة الحزب، وحتى هيكله الداخلي، من غموض موقف طهران. أرسلت إيران في تلك الفترة إشارات ملتبسة. كان صعباً مصالحة منطق "الثورة" الذي كان يحاول المرشد، علي خامنئي، الإيحاء بالتمسّك به مع خطاب "الدولة" الذي يروّج له الرئيس الجديد، مسعود بزشكيان ووزراء حكومته. وفيما حمل بزشكيان إلى نيويورك خطاب الانفتاح على الغرب و"الأخوة" مع الولايات المتحدة والاستعداد لـ"وضع السلاح جانباً"، كان وزير الخارجية، عباس عراقجي، من نيويورك أيضاً يعمل على تفسير مواقف الرئيس وترميم شططها اتقاء من تململ المتشددين في بلاده. وعلى الرغم من أن المرشد قد رعى التحوّلات في إيران وأشرف على "هندسة" انتخابات أتت ببزشكيان رئيساً، مع ما يعنيه ذلك من دعم لخطاب الاعتدال والانفتاح على الغرب، وعلى الرغم من أن المرشد نفسه ساهم في هذا التوجّه بالانتقال من فتوى "الصبر الاستراتيجي" إلى اجتهاد "التراجع التكتيكي" و"الحديث مع الأعداء"، غير أن تحوّلات إيران لم تكن مفهومة بالنسبة لـ"محوّر المقاومة" وكانت مقلقة بالنسبة لحزب الله وسببت غضب نصر الله نفسه، وفق معلومات إيرانية المصادر. تؤكد تلك المصادر أن عراقجي كان يخطط لزيارة لبنان قبل أسابيع، وأن مساعديه الذين كان يعدون جدول أعماله ولقاءاته في بيروت تبلغوا رفض نصر الله اللقاء معه. قالت المصادر إن زعيم "حزب الله" كان غاضباً من تصريحات صدرت عن حكومة بزشكيان فُهم منها تخلي إيران عن "المحوّر". فُسّر موقف نصر الله أيضاً بصفته امتداداً لمواقف داخل الحرس الثوري ممتعضة من التحوّلات التي يرعاها المرشد. ورأت آراء أخرى أن نصر الله كان يعبّر عن موقف محلي لحزبه، يأخذ بالاعتبار ظروف الحزب الذي يفقد قادته وظروف لبنان والضغوط التي تمارسها الحرب على البيئة الشيعية. وبناء على رفض نصر الله مقابلته، ألغى عراقجي زيارته آنذاك. استبق عراقجي، في زيارته قبل أيام، أي غموض بشأن وضع "حزب الله" بعد اغتيال زعيمه. استنتجت طهران أن الحزب، وربما قبل اغتيال نصرالله، لم يعد يستطيع التمسّك بقدسية ربط لبنان بغزّة. راقبت بقلق حراك رئيس الحكومة اللبنانية في نيويورك وتماهيه مع جهد فرنسي أميركي لوقف إطلاق النار. غير أن ما أقلق طهران هو تفاقم "تحوّلات بيروت". كان ميقاتي أعلن بالاتفاق مع رئيس مجلس النواب، نبيه بري، (ولاحقاً إثر لقائهما مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط)، عن التزام لبنان بالنداء الدولي الذي صدر في نيويورك لوقف إطلاق النار. أعلن أيضاً التزام لبنان بتنفيذ القرار الأممي رقم 1701 وإرسال الجيش اللبناني إلى جنوب نهر الليطاني. لكن التحوّل الداخلي اللافت كان في إعلان ميقاتي أن بري سيدعو مجلس النواب إلى جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية يكون "توافقياً لا يمثّل تحدياً لأحد". جاء عراقجي، على نحو مباشر وجلف، لا يليق بالعلاقات الدبلوماسية بين دولتين، ليملي على بيروت ما يجب سلوكه. وفيما تحدثت أنباء عن جلسة متوتّرة مع ميقاتي نفى توتّرها مكتب رئيس الحكومة، غير أن ما أعلنه عراقجي نفى نفي ميقاتي نفسه. قال الوزير الإيراني إن بلاده تدعم جهود وقف إطلاق شرط موافقة "المقاومة"، وأن يأتي وقف إطلاق النار "بالتزامن مع وقف إطلاق النار في غزة". أرفق مواقفه بتأكيد إيران الدعم للمقاومة والشيعة، حاملاً بذلك رسالة تزيل لبساً في موقف إيران. لكنه أضاف إلى تصريحاته عبارة: "كان من الضروري أن أقول هذا شخصياً"، بما رجّح تأكيد أنباء رفض نصرالله مقابلته في السابق. بدت إيران، من خلال وزيرها، وكأنها تلملم نفوذاً يتلاشى، فيما وزيرها يستعين بجرعات غطرسة لا يلجأ عادة إليها الأقوياء. ورغم أن رسالة عراقجي أحدثت صدمة وصمتاً في دوائر ميقاتي وبري، غير أن أصواتاً (بعضها حكومي) تدافعت، وعلى رأسها جنبلاط نفسه، تظهر تبرّماً من "وصاية" تطمح إليها إيران ورفضاً لسلوك وزيرها. والأرجح أن بيروت تبلّغت مناخاً عربياً إقليمياً دولياً يؤكد أن المنطقة دخلت طوراً جديداً وأن طهران لا تريد تصديق ذلك.
- آخر تحديث :
التعليقات