هذا كلام شئته في البداءة أن يكون حواراً مع الذات، أنقله الآن إلى الشيوع، مؤملاً أن يجد صدى لدى من يقرأ هذه السطور. كلام إلى من هم مع الفريق المسّمى "محور الممانعة"، وإلى من هم ليسوا مع هذا المحور. أكتبه بصفتي مواطناً يريد أن يكون وطنه، كما اللبنانيون جميعهم يريدونه أن يكون، بلداً حرا سيدا ومستقلاً، بمأمن من أي دولة تنوي العبث بأمنه ومصيره، سواء جاء هذا العبث من جانب إسرائيل، أو أي دولة أخرى في العالم. لقد سبق وكتبت ثلاث رسائل إلى السيد الراحل أمين عام حزب الله حسن نصر الله على صفحات جريدة "النهار"، وقلت في الثالثة منها إنها ستكون آخر الرسائل. كتبتها ناصحاً وداعيا أن يعمل "حزب الله" على إقامة دولة علمانية في لبنان. لم أكتبها شاتماً، ولا منتقداً، ولا عاتباً ،كما يفعل خصوم هذا الحزب، مع اعترافي بصراحة، بأني لم أكن يوماً مع أدبيات هذا الحزب في شيء، ولا مع أدبيات أي حزب أو تيار سياسي لبناني آخر، لأن الأحزاب اللبنانية كلها طائفية، مناصروها من فئة لبناية واحدة، ولم يتفق أن انتميت في حياتي كلها إلى عقيدة دينية أو سياسية، وأرى أن أكثر ما يعانيه لبنان هو هذا التشرذم القائم بين أبنائه، الذي يحول بينهم وبين انتمائهم الخالص إلى وطنهم، ويحمل كل فريق منهم على تخوين الفريق الآخر، واتهامه بأنه يبيع الوطن للغريب. لست من السذاجة لأعتقد أن العاملين تحت راية "حزب الله" يبيعون وطنهم للغريب، فهم وهبوا أنفسهم للدفاع عن أرضهم وكراماتهم، لكن أكثر ما كان يؤلمني أنا اللبناني المهاجر، حين كنت أسمع وأقرا أن من هم مع "حزب الله" يخونون الفئة الأخرى، التي ليست مع هذا الحزب، لا في الثقافة ولا في السياسة. كنت أجد في هذا السلوك تجنياً ما بعده تجن، لأن اللبنانيين كلهم ومن دون استثناء، محبون لوطنهم، وكما لكل شيخ طريقة كما يقول الأزهريون، كذلك لكل لبناني طريقة في التعبير عن حبه وولائه لبلده، وحمل السلاح للدفاع عنه متى اقتضت الضرورات. العصبيات الدينية، تفرق بين الناس، وأن من اللبنانيين من لا يقف اليوم مع "حزب الله" في الحرب الدائرة في الجنوب. هؤلاء ليسوا خونة، ولا مرتزقة، ولا عملاء، هم وطنيون على طريقتهم، وهم ضد إسرائيل وضد الصهيونية، كما هو "حزب الله" ضد إسرائيل وضد الصهيونية. أعرف أن هناك دوافع كثيرة تجعل بعضهم يعتمد هذا الموقف السلبي من "حزب الله"، وأعرف أن هذه الدوافع نابعة من نزعات دينية في بلد متعدد الطوائف، وهذه الميول ليست جديدة في حياتنا على كل حال، هي مدونة في ثقافاتنا وعاداتنا قبل أن تولد إسرائيل بقرون، وقائمة وفاعلة على أرضنا قبل أن تطأهاحراب المحتلين وأقدام المستعمرين. مهما تكن الحال، أتوقف هنا لأشير إلى الطريق التي يمكن لبنان بها أن ينتصر على إسرائيل، من دون أن يطلق عليها رصاصة واحدة، وأرجو، لا بل أتوسل إلى من هم مع "حزب الله" أن لا يفقدوا صبرهم معي، كما فقد موسى "النبي" صبره مع الخضر، في تلك القصة القرآنية الأثيرة البليغة من سورة الكهف. في زمن مضى من القرن الماضي، كان في لبنان سياسي اسمه بيار الجميل. ذات مرة قال هذا السياسي إن قوة لبنان في ضعفه. لم يكن بيار الجميل الذي كان اللبنانيون يطلقون عليه لقب الشيخ، مؤرخا ولا أكاديميا ولا كاتباً، ليشرح المعنى السياسي الذي تختزنه هذه العبارة، وكان أبعد ما يكون عن الإيديولوجيات، لكني آخذ قوله هذا كشعار ومرشد للعمل، وأقول إن في لبنان الضعيف هذا تكمن قوة لبنان ومناعته. أعرف أن بعض القراء سيضحك ويقول لي ساخراً ومتسائلاً: على رسِلك يا رجل، أتريد أن تقول لنا ما سبق وسمعناه من "حزب الله" إن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت؟لن يكون بوسعي إقناع هذه الشريحة من القراء، مهما حاولت وجهدت، إلا بضرب الأمثال. من هذه أضرب مثل رجلين يتصارعان في الطريق، فيأتي رجل الشرطة ويفصلون بينهما. لن يكون من بين العابرين من يهمه أمر أحدهما، لكن إذا اتفق أن وجد رجل يضرب طفلاً، سيقف المارة كلهم إلى جانب الطفل، وأول شيء سيفعله رجال الشرطة هو أن يسوقوا الرجل إلى المحاكمة. أضرب مثلا آخر، يحمل المعنى السياسي الذي أرمي إليه. لنفترض أن دولة كبيرة قوية مثل فرنسا قررت أن تغزو دوقية صغيرة في أوروبا مثل اللكسمبورغ. فرنسا تقدر أن تقوم بذلك بالطبع وفي ساعات معدودات، لكنها ستفكر ألف مرة قبل أن تفعل ذلك، ولو فعلته فسيقف العالم كله ضد فرنسا، والشعب الفرنسي كله من اليمين ومن اليسار، سيقف ضد حكومة بلده، ولن تجد الحكومة الفرنسية مواطنا فرنسيا واحدا يؤيدها في غزوها تلك الدوقية، ليس لأن اللوكسمبورغ ضعيفة وصغيرة فحسب، بل لشيء آخر أهم من ذلك بكثير، وهو أنها دولة مسالمة وراقية، نظامها يماثل أنظمة الدول الديموقراطية الراقية في العالم. قوة لوكسمبورغ إذن، هو في نظامها الراقي أولا، ثم في حجمها الصغير وضعفها. هذا لا يعني أن لا يكون لدولة صغيرة سلاح تصد به من يعتدي عليها لأيام معدودة، ريثما يأتيها الدعم العالمي المطلوب، لكن قوتها الأساس تكمن في "ضعفها" وصورتها كدولة تنتمي إلى مجموعة الدول الراقية المسالمة. أنتقل إلى لبنان واتساءل: هل كانت إسرائيل تتجرأ على الاعتداء على لبنان، لو أن نظامه السياسي كنظام اللوكسمبورغ، أو كنظام دولة أخرى صغيرة مثل فنلندا أو النروج؟ هذا يفيدنا أن النظام اللبناني الفاسد، القائم على الكذب والنفاق واستغلال الأديان، لا يؤهل لبنان ليكون عضواً في مجموعة الدول المحترمة. هو نظام أشبه بطريدة تحلل نفسها للذبح قبل أن يحلل الآخرون دمها! لهذا السبب، ولهذا السبب وحده تنزل إسرائيل بلبنان النوازل، ولا أحد في العالم يعبأ أو يرف له جفن. نتذكر أيضاَ كمثل، إن ينفع التذكير، حرب الأيام الستة عام 1967، وكيف هزمت إسرائيل الجيوش العربية، فيما بقي لبنان الصغير "الضعيف" بمأمن من تلك الحرب، بسبب اتفاق الهدنة بينه وبين إسرائيل، اتفاق حماه من حروب المنطقة لسنوات طويلة، إلى أن جاء يوم وقّع لبنان فيه ورقة نعيه، اتفاق القاهرة المشؤوم سنة 1969، الذي حوله إلى ساحة لحروب الآخرين على أرضه، كما كتب غسان تويني. نتذكر أيضاً انتفاضة أطفال الحجارة "الضعفاء" ضد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية في ثمانينات القرن الماضي، وكيف وقف العالم يومها مع أطفال فلسطين، ودخلت كلمة "انتفاضة" لغات الأرض قاطبة، وكيف بدأ الملايين من شبان العالم وصباياه يضعون على رؤوسهم وأرديتهم شالات ألوان الكوفية الفلسطينية كمظهر من مظاهر التأييد لقضية فلسطين، ولم تنطفئ شعلة تلك الانتفاضة، إلا يوم جاء ياسر عرفات من المهجر، ومعه رفاقه من "أبوات" الثورة، فصادروا الانتفاضة واحتكروها، ليعلموا الصغار كيف يكون نضال الكبار! ثم كان ما كان مما لا نزال نتذكره جميعنا، عن المآسي التي جلبتها تلك الثورة على لبنان، وعلى فلسطين وشعب فلسطين. في الرسائل الثلاث التي سبق أن وجهتها إلى السيد حسن، قلت إن لا حل للبنان إلا بنظام مدني علماني، هو النظام الوحيد الذي يولد التجانس بين الناس ويتلاءم وشرائع السماء، ويصون لبنان من عبث رجال السياسة ورجال الدين، ويعزز مكانته في العالم، ويؤهله ليصبح دولة جدية ومحترمة، لأن العالم لن يحترم لبنان ويساعده على استرداد أرضه ونيل حقوقه، إلا حين يحترم نفسه. بهذا الاحترام القائم على تغليب العقل على الغرائز والضغائن، يمكن لبنان المسالم المتحضر، أن يدرأ عن نفسه المخاطر، وينتصر على إسرائيل، بإظهار وجهها البشع أمام العالم، كدولة معتدية، ويكون خير نصير لفلسطين وشعبها، ولقضايا أشقائه العرب، لا بالسلاح، بل بقوة العقل وقوة الحق ومضاء العزيمة. في كتابه "كلية ودمنة"، يقول ابن المقفع، "إن الريح العاتية تقلع الشجرة الصلبة، لكنها لا تقدر على صغار الحشيش"، والإمام علي يقول "رحم الله امرأ عرف حده ووقف عنده"، وسقراط، زعيم القدماء من الفلاسفة يقول "اعرف نفسك". أقوال هؤلاء الكبار في التاريخ، لم تأت من عبث ومن فراغ، وفيها حكم وأمثولات لا يدرك معناها إلا العقلاء، وأكثر ما يحتاجه لبناننا اليوم هو هذا الإدراك، لأن به وحده، يستخرج لبنان من ضعفه قوة لحياته وازدهاره، ويصبح دولة سيدة حرة منيعة، لا تقوى أبواب الجحيم عليها، ولا حراب المعتدين. [RK1]
- آخر تحديث :
التعليقات