في التاسع من حزيران (يونيو) 1967، على إثر الهزيمة المروعة التي تلقتها دول مصر والأردن وسوريا على يد إسرائيل في حرب حزيران، ألقى جمال عبد الناصر خطاب تنحّيه عن الرئاسة، متحمّلاً المسؤولية عن الفشل العسكري الهائل وتبعاته السياسية: "ولا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة. لكني واثق أننا جميعاً نستطيع وفي مدة قصيرة، أن نجتاز موقفنا الصعب، وإن كنا نحتاج في ذلك إلى الكثير من الصبر والحكمة، والشجاعة الأدبية، ومقدرة العمل المتفانية". وبعد إعلان الرجل تحمّله المسؤولية كاملةً عن الهزيمة، ذكر مستطرداً، "وقد اتخذتُ قراراً أريدكم أن تساعدوني عليه: لقد قرّرت أن أتنحّى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي، وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر". استخدم الرجل مصطلح "النكسة" لتوصيف ما حصل. انتشر المصطلح سريعاً وأصبح الطريقة الوحيدة تقريباً، المتاحة لفهم الحدث وكيفية الحديث عنه: "نكسة حزيران". ليس واضحاً بدقة من اكتشف هذا التوصيف. قد يكون قائد الجبهة الأردنية، الفريق عبد المنعم رياض، الضابط المصري الرفيع الذي سيصبح يوم مقتله بعد عامين في 9 آذار (مارس) 1969 بضربة عسكرية إسرائيلية "يوم الشهيد" المصري،" أو محمد حسنين هيكل، مستشار عبد الناصر وصديقه وكاتب خطاب التنحّي الذي ورد فيه التوصيف. بغضّ النظر أيهما صاحب الاختراع، فإن التبرير الذي قُدّم في الحالين هو واحد وذو دلالة مهمّة بخصوص طريقة التفكير السائدة حينها: "النكسة" موقتة، تراجع مفاجئ كبير ومؤلم، لكن يمكن التعافي منه، والنهوض تالياً، بعكس "الهزيمة" التي فيها معنى النهائية والإقرار بالخسارة والقبول بنتائجها. كان هذا الانتقاء الدقيق لمصطلح "النكسة" معبّراً أيضاً عن الإرادة السياسية الحاكمة وقتها، والتي أيضاً لم تكن بعيدة عن الإرادة الشعبية الجارفة الباحثة عن تجاوز أسباب هذا "التراجع الموقت" وصولاً إلى التحرير: تحقيق نصر حاسم ونهائي ضدّ إسرائيل ينهي وجودها. بوصفها زعيمة العالم العربي وقتها، تصرفت مصر الناصرية على هذا الأساس، أي النهوض من النكسة بعد "إزالة آثار العدوان" واستئناف مشروع التحرير، كما ظهر ذلك واضحاً بعد بقاء عبد الناصر في منصبه على إثر المطالبات الشعبية، المصرية والعربية، باستمراره فيه. فعلت مصر الكثير لإعادة تأهيل قواتها المسلحة التي تعرّضت لدمار كبير في حرب "النكسة"، وذلك بمساعدة سوفياتية مهمة. سياسياً، بعد أكثر من شهرين من "النكسة" عُقدت في السودان، في نهاية آب (أغسطس) 1967 "قمة الخرطوم" للجامعة العربية التي اتفقت فيها الدول العربية على مواصلة مشروع التحرير عبر إطلاق اللاءات الثلاث الشهيرة بخصوص إسرائيل: لا سلام معها، لا اعتراف بها، لا تفاوض معها، أي أنه لا حلّ مع إسرائيل إلّا الحرب التي تنهي وجودها. في الثامن من آذار (مارس) 1969، أعلن عبد الناصر انتهاء وقف إطلاق النار الذي أوقف حرب حزيران والبدء بـ"حرب الاستنزاف"، وهي سلسلة عمليات قصف بدأتها المدفعية المصرية، ومواجهات عسكرية متقطعة بين القوات المصرية والإسرائيلية وكمائن وغارات، واستمرت نحو 17 شهراً، لتنتهي بوقف إطلاق نار يستمر ثلاثة أشهر بوساطة أميركية، عُرفت باسم "مبادرة روجرز" على اسم وزير الخارجية الأميركي الذي صاغها وليام روجرز، تضمنت أيضاً تفاوضاً لإيجاد حل دائم للنزاع لم يتحقق. في حقيقة الأمر، بدأت حرب الاستنزاف هذه، على نحو مخفف وغير رسمي، قبل عامين من موعد إعلانها الرسمي، وذلك في الشهر الذي أعقب النكسة، تموز (يوليو) بهجمات للجيش المصري وردود انتقامية إسرائيلية، وامتدت لتشمل الجبهتين الأردنية والسورية. جاء إعلان عبد الناصر لها بعد ذلك بعامين تصعيداً وشرعنةً لما كان يحدث فعلاً على الأرض: ضربات وضربات مضادة. بخلاف التقديرات المصرية التي تميل للمبالغة في المكاسب العسكرية التي حققتها "حرب الاستنزاف"، كان تأثير هذه الحرب المعنوي والشعبي هائلاً، إذ ساهمت باسترداد بعض الكرامة المهدورة وتأكيد القدرة على الفعل بإزاء العدو، فضلاً عن منحها الجيش المصري بعض الخبرة المهمة التي ستفيده في حرب تشرين 1973. توفي عبد الناصر في نهاية أيلول (سبتمبر) 1970 في أثناء هدنة الـ90 يوماً في حرب الاستنزاف. لم يكن خليفة عبد الناصر، محمد أنور السادات، مهتماً بمواصلة تلك الحرب بعد نهاية الهدنة. لم يمتلك السادات كارزميّة عبد الناصر ولا شغفه القومي، وعلى الأكثر، لم يكن مهتماً بزعامة مصرية للعالم العربي كتلك التي أسس لها وأدامها عبد الناصر. كان الرجل واقعياً وجريئاً في الوقت ذاته. شن حرب السابع من تشرين الأول (أكتوبر) في 1973، وهو يدرك جيداً أنها لن تقود إلى هزيمة نهائية لإسرائيل ولا إلى تحرير فلسطين. كان يريد فقط أن يحقق نصراً عسكرياً ما يقود تالياً، عبر السياسة، إلى استرجاع كامل الأراضي المصرية التي احتلتها إسرائيل في أثناء حرب 1967: صحراء سيناء. شن الجيشان المصري والسوري هذه الحرب على جبهتين مختلفتين: فاجأ المصريون القوات الإسرائيلية بعملية ذكية أدّت إلى عبورهم قناة السويس حيث التحصينات الإسرائيلية وتدميرهم خط بارليف الدفاعي الذي نصبته إسرائيل، وبالتالي استعادوا السيطرة على القناة، فيما لم يحقق السوريون تقدّماً مهمّاً على جبهة الجولان، فمكاسبهم التي حققوها في الأيام الأولى من الحرب سرعان ما خسروها أمام التقدّم العسكري الإسرائيلي تالياً، خصوصاً باستخدام القوة الجوية. مَثّلت حرب 1973 نصراً جزئياً، لكن ليس كاملاً ولا حاسماً، للعرب، إذ حرّر الجيش المصري قناة السويس لكنه لم يستطع تحرير صحراء سيناء، فيما ظل الجولان، المُحتل في 1967، تحت السيطرة الإسرائيلية. مع ذلك كانت هذه الحرب مهمّة معنوياً وسياسياً وعلى نحو أقل عسكرياً. ففضلاً عن إثباتها القدرة على التخطيط العسكري الناجح وتنفيذه جزئياً، كان الانتصار المصري العسكري المحدود فيها كافياً لمحو "عار النكسة" سياسياً ومعنوياً واستعادة العالم العربي حسه بالكرامة القومية التي أهدرتها هزيمة 1967. عَمَّقت هذه الحرب ونتيجتها قناعات السادات التي كانت تناقض مشروع التحرير والانضواء العربي الواسع والقوي فيه: لا حل عسكرياً لهذا النزاع، بمعنى استحالة إيقاع هزيمة عسكرية نهائية بإسرائيل مدعومة عسكرياً وسياسياً من الغرب بزعامة أميركية، وصعوبة تحمّل مصر اقتصادياً نزاعاً عسكرياً مفتوحاً مع إسرائيل. قادته هذه القناعات إلى خطوة جريئة وصادمة: فتح مسار تفاوضي مباشر مع إسرائيل برعاية أميركية انتهى بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد في أيلول (سبتمبر) 1978، بموجبها استعادت مصر أرضها المحتلة في سيناء، وانتهت حالة الحرب بين الطرفين عبر معاهدة سلام بينهما. لُعن السادات كثيراً في العالم العربي، وقُدّم بوصفه نموذجاً للخيانة وترسيخاً لنهج استسلامي مرفوض، وقوطعت مصر عربياً وطُردت من الجامعة العربية التي نُقل مقرّها من القاهرة إلى تونس. في عام 1991، وفي إطار إيفاء أميركا لوعدها للدول العربية بأن مقابل مشاركة هذه الدول في حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، ستفتح مساراً ديبلوماسياً، عبر مؤتمر مدريد 1991، لحل القضية الفلسطينية بضمنه نزاعات إسرائيل مع الدول العربية المجاورة لها: الأردن، لبنان وسوريا. أنتج هذا المسار تالياً اتفاقَ سلام أردنياً-إسرائيلياً في 1994 (اتفاق وادي عربة)، وعودة منظمة التحرير إلى الضفة الغربية كسلطة حاكمة جزئياً في ظل ترتيبات مرّت عبر اتفاقات أوسلو الأولى والثانية، كان ينبغي أن تؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية في آخر المطاف. لم يتحقق هذا الهدف، وكذلك الآخر المتعلق بحسم النزاع مع سوريا ولبنان، وذلك لأسباب معقّدة ومتداخلة، كان فقدان الثقة أساسياً بينها. بغضّ النظر عن النتائج التي أفضى إليها مسار مدريد، كان مجرد دخول الدول العربية فيه إقراراً ضمنياً متأخّراً بأن قناعات السادات، التي شُيطن الرجل بسببها وربما دفع حياته لأجلها، كانت صحيحة بخصوص استحالة التحرير عسكرياً، وضرورة الذهاب إلى صيغة ما للتعايش مع إسرائيل تحفظ للفلسطينيين حقوقهم. صيغة تتطلب تنازلات متبادلة ومؤلمة أحياناً. برغم الفشل التاريخي للدولة العربية الحديثة في إنجاز الكثير مما يدخل في تعريف الدول الناجحة، كالتحديث والتنمية والمساواة والشفافية وحكم القانون، هي تصرفت عموماً بمسؤولية بإزاء علاقتها بالتحرير، رغم تأخّرها في الاكتشاف وخطأها في التقييم قبل الوصول إلى الاستنتاج الصحيح. عندما شعرت هذه الدول بالعجز عن إنجاز هذا التحرير وبتكلفة الاستمرار الهائلة والمرهقة له، توقفت عنه كسياسة، ووثق بعضها توقفه بمعاهدات، فيما لا يزال بعضها الآخر راغباً بمعاهدات لكن في ظروف أفضل. السبب في هذا التحول المتأخّر في السلوك، هو إحساس هذه الدول بالمصلحة العامة التي عليها كسلطة أن تراعيها وتتجنّب خيارات كارثية تقود إلى انهيار تتحمّل هي أعباءه. باختصار، هي قدّمت المصالح على الأمنيات. لم يكن الأمر هكذا بخصوص النسخة الحزبية للتحرير، وهي النسخة التي تولتها لفترة طويلة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، قبل أن يتبنّاها "حزب الله" اللبناني بعد خروج المنظمة من لبنان في 1982 على إثر الاجتياح الإسرائيلي حينها. بخلاف النسخة الدولتية للتحرير التي تنتبه للوقائع والإمكانات والخسائر وتقرّر المصالح على أساسها، غاب من النسخة الحزبية للتحرير، خصوصاً في تخريجتها الإسلامية التي يمثلها "حزب الله" أولاً ثم "حماس" ثانياً ورعتها إيران الجمهورية الإسلامية، هذا التقدير العام للمصلحة. في ظل هذه النسخة، اعتبرت الخسائر، الكبيرة والصغيرة على السواء، تضحيات ضرورية على درب صراع طويل ومفتوح لا نهاية منظورة له، ولا خطة واضحة فيه لكيفية تحقيق النصر وإنجاز التحرير، ولا مواعيد فيه للمراجعة وتغيير المسار إذا ظهر الفشل على المشروع، لأن الفشل أصلاً غير معترف به كواقع وممنوع كمبدأ. بالاستعانة بخليط متنافر من مقولات دينية وعشائرية ووطنية، صاغت هذه النسخة الإسلامية للتحرير خطابها على أساس التضحوية، أي تحويل التضحية من استثناء يُحتاج له فقط في الأوقات الصعبة ويتطلب بطولة عالية طوعية وفردية تستحق الاحتفاء بها بسبب ندرتها واستثنائيتها، إلى شأن يومي عام ومستمر ينبغي أن يندرج فيه الجميع: تعطيل الحياة وتبجيل الموت والتقبل الدائم للخسائر والتعايش مع التدهور (تنمية غائبة، مؤسسات منخورة بالفساد وانعدام الكفاءة، بنية تحتية بائسة، خدمات عامة فقيرة إلخ...)، من دون مراجعة كل هذه الخسائر بإزاء المصلحة العامة ومعناها، بل الاكتفاء الأخلاقي بلوم العدو على شرّه المتواصل الذي تسبب بكل هذه الخسارات، وإعفاء الذات من أي محاسبة وتحمّل للمسؤولية. تبرز أمامنا في هذه الأيام الحالكة نتيجة هذا السلوك والخطاب الداعي له: دمار هائل وقتل فظيع ومتواصل في لبنان وغزة والمزيد من الهيمنة الإسرائيلية، بما تعنيه من الإيغال في تخريب ما تبقّى من احتمالات الحياة الإنسانية والطبيعية فيهما... امتلك عبد الناصر الشجاعة الأخلاقية للاعتراف علناً بالهزيمة وتحمّل نتائجها، وامتلك السادات الشجاعة السياسية لتغيير المسار عند اكتشافه عدم جدواه… لا يوجد لحد الآن نظيرٌ للاِثنين بين الإسلاميين من دعاة التحرير... يتبع...