لا تجوز الكتابةُ عنه بلغةِ التمجيد أو بالمبالغة، بل بسردٍ أمين للوقائع، المرة منها والمشرقة، في طريق عبرته المؤسسة العسكرية اللبنانية، وهو على رأسها، بين أشواكٍ كثيرة وبعض الورود.

استبعاد التمجيد والمبالغة، ليس من قبيل تعمّد الواقعية ببعض خبثها، بل هو استعداد لبناني، بل انتظار لمرحلة مقبلة، بات من المرجح أن يلعبَ فيها العماد جوزف عون، دوراً حساساً ومقرراً، على مفترق طريق، قد يكون الأكثرَ مصيرية في عمر الوطن، الذي لم تجد مراسيه مرفأ الأمان والاستقرار.

في سجل قائد الجيش، محطات تستوجب التوقف عندها بتمعن.

تعيينه قائداً للمؤسسة العسكرية، جاء في سياق توافقي، بتزكية من قائد جيش إشكالي، تربع على كرسي بعبدا. كانت نصف تزكية، لأنَّ في بلاط الرئيس الجديد، كان هناك اعتراض وخشية من هذا الضابط المغوار، الذي يتَّصف ببعض العناد، خشية من ألّا يكون رجلَ العهد المطواع. كانت الخشية محقة، فجوزف عون عندما وطئت قدماه المكتبَ القائد في وزارة الدفاع اللبنانية، أراد أن يكونَ رجلَ الدولة، وحاميَ المؤسسة العسكرية من شرّ التبعية السياسية، وكانت مواجهة طويلة وصامتة في البداية، تحولت إلى ضجيجٍ وصخب من طرف واحد.

في مواجهةِ القائد العنيد والصامت، اتهامات بالخيانة والتنكر للمعروف، تبيَّن أنهَّا لم تستهدف جوزف عون، إلا لأنَّه أقفل الباب أمام استعمال الجيش في وجه الناس.

قرأ قائد الجيش قدره وقرر قراره. تلمس بالمعلومات المتاحة، وبما يمتلك من قدرة على استباق الأحداث، أنَّ الاستياء من الفوضى والفساد والهدر واستباحة الدولة، سيولد الانفجار. كان ذلك قبل انتفاضة 17 تشرين بأشهر.

كان استعدادُه للتعامل مع الأزمة، نابعاً من قناعة عميقة بأنَّ مهمته الحفاظ على الدولة لا السلطة، على اللبنانيين، لا على من يحكمونهم بأسلوب الأمر الواقع.

عندما اندلعتِ الانتفاضة أعطى التوجيه الصارم: لا أريد نقطة دم واحدة في الشارع، لن يكون عسكري من الجيش، ولو واحداً، سبباً في إهراق الدم.

سرى التوجيه وطبق بنسبة عالية جداً، مع استثناءات خارجة عن إمكانية الضبط، وربح عون الرهان، بأقل الخسائر. واجه كل الضغوط، وكان مستعداً للمغادرة، إذا تمكنت منه، لكنَّه تمكَّن منها.

كانت مهمة أبعدَ من السياسة، وضع فيها فؤاد شهاب من تاريخ مشرف، من حيث هو، علامة امتياز لقائد الجيش، الذي كسر شراسة استثنائية مورست ضده، كانت ستؤدي إلى تلويث ثوب المؤسسة باللون الأحمر. صمد وواجه، وربح لبنان آخر ما تبقى له من علامات الاستقرار، جيش سلم من المكائد، ليحفظ في ظروف صعبة جداً، سلماً أهلياً هو آخر استثمار يمكن ترجمته إلى دولة، يشعر فيها أبناؤها بأنَّهم محميون بالقدر الذي لا يفرض عليهم فيه، ركوب الطائرة إلى أقرب منفى.

في سجل جوزف عون قرارات صعبة. انفجار المرفأ، أحداث الطيونة، التي أنذر فيها السلاح، بألا يتجاوز إلى إشعال الفتنة، فكان الإنذار استعمالاً للحزم، وسلم خط التوتر السريع بين الشياح وعين الرمانة والطيونة، من نموذج بوسطة عام 1975.

في سجل جوزف عون، إدارة صارمة وبعيدة عن الشبهات للجيش الذي نكب بأزمة الانهيار الاقتصادي، كما سائر اللبنانيين. بهذه الإدارة كسب الثقة الدولية والعربية، وتمَّت مساعدة الجيش الذي حافظ على تماسكه، فتم تعويض جزئي لانهيار قيمة الرواتب، وفي الوقت نفسه، تم التعويض للعسكريين وعائلاتهم، بتأمين الطبابة الكاملة على نفقة المؤسسة، وهذا إنجاز يحتسب في ظل شبه الانهيار للقطاع الصحي بفعل الأزمة.

أمّا كيف استطاع عون كسب الثقة والمساعدات؟ فالجواب غير معقد: تأتي المساعدات فتوضع في تصرف لجنة تشرف على صرف المبالغ، بصيغة شفافة وبمسؤولية جماعية. إنَّها رسالة بأن ليس كل من عمل في الشأن العام في لبنان، عينه على المال العام، بل هناك استثناءات تؤسس لمسار مختلف.

هذه الثقة الدولية والعربية بالجيش وبقيادته، بنيت حجراً فوق حجر. كانت المنطلق لتعاون بين المؤسسات والمجتمع الدولي والعربي الحريص على الاستقرار وسط العواصف.

بذل قائد الجيش جهداً كبيراً للحفاظ على السلم الأهلي، ووسع الهوامش في الاقتراب من ملفات الحدود والقرارات الدولية، وكانت إجراءات على الحدود مع سوريا، وسجلت اعتراضات تم تجاوزها، أما في الجنوب، قبل طوفان الأقصى وحرب الإسناد، وما نعيشه اليوم، فالجيش دائماً تحت سقف القرار السياسي للحكومة، كأنَّنا به ينتظر لحظة التوافق الكبرى والتسويات، ليترجم جاهزيته الوطنية، كحارس حدود للبنان وفقط للبنان، بالتعاون مع الشرعية الدولية.

تجتمع في هذا الرجل مواصفات تنطبق على مرحلة متحولة وشديدة الحساسية. الأطراف الداخلية التي تضع العصي في دواليب مسيرته المقبلة، منهكة ومستنزفة بفقدان المصداقية، أما الأطياف الأخرى من أهل السياسة فيؤيدون رئاسته، ولا يعلنون، ربما كي يعززوا من حظوظ هذه الرئاسة.

أما في المجتمعين الدولي والعربي فهناك من يراقب من بُعد، ولا يجد ليدعم لهذا الخيار، إلا من سار في قيادة القارب، بحكمة وبوعي سياسي مكتسب وتراكمي.

المطلوب لهذه المرحلة داخلياً وعربياً ودولياً، الكثير من فؤاد شهاب، والقليل من السحرة، القادرين على دغدغة المشاعر واستلاب العقول.

سبع سنوات في قيادة الجيش، والسجل يتكلم عن نفسه. إنَّها المواصفات العلاجية التي تتطلّبها مرحلة بالغة العنف والقسوة، إلى درجة السؤال عن إمكانية استمرار الكيان.

* كاتب وصحافي لبناني