الشطرنج في روسيا رياضة مقدسة، قضى البلاشفة على النبلاء الذين برعوا فيها لكنهم احتفظوا بها. والحكم السوفياتي أعفى أبطال الشطرنج من الخدمة العسكرية لكي يشاركوا في البطولات الوطنية. ربما أضاف هذا المقام الخاص للشطرنج إلى صدمة الأستاذ الأكبر غاري كاسباروف حين هزمه كمبيوتر IBM عام 1997. كمبيوتر ديب بلو كان مصمماً لكي يحسب ملايين الخطوات في الثانية، وهذا رقم كفيل بمواساة أي بشري يتعرض للهزيمة على يده، على الأقل بعذر الإرهاق الذهني، وهذا غالباً ما حدث لكاسباروف، الذي كان متقدماً بعد الشوط الأول ثم فوجئ بحركة من الكمبيوتر وصفها بأنها «لا تنتمي إلى منطق الشطرنج»، وتحولت المباراة لصالح هذه النسخة المبكرة من الذكاء الاصطناعي.

كاسباروف عبر عن غضبه بعد المباراة، مذكّراً بأن الكمبيوتر نفسه لم يستطع أن يستوعب ضغط الحسابات فتجمد مرتين، وأن المنظمين سمحوا لتقنييه بإعادة التشغيل، وهي ميزة لم ينل مثلها العقل البشري. يبدو رد فعل كاسباروف حالة خاصة. لكن نظرة ثانية إليه تظهر أنه يشبه القلق العام من الذكاء الاصطناعي، بل ورد الفعل العام إزاء التطورات التكنولوجية الكبرى في المجتمعات، ولا سيما من هؤلاء المرشحين لفقدان حظوتهم. اعتراضات لا تخلو من وجاهة، لكنها لا تصمد لحكم الزمن.

تشارلز ديكنز وصم الثورة الصناعية بالقسوة ونقل قلق الطبقة العاملة من أثرها على حياتهم، وتشارلي تشابلن سخر من موقع الإنسان في آلة الحداثة. كلاهما مبدعٌ خلق فناً باقياً مؤثراً، لكن لا يقارن ببقاء الثورات التكنولوجية وتأثيرها، وموقعها الجوهري من حياتنا. ويُظهر الحكم المنصف عليها أن أثرها الإيجابي كان أخلاقياً بقدر ما كان اقتصادياً. ما نسميه حالياً «تضاؤل الحاجة إلى اليد العاملة» هو نفسه القوة الدافعة إلى «تحرير العبيد». وما ينعم به الشخص العادي في أيامنا من رفاهية في ظل تكييف الهواء والماء النظيف والدش الساخن ووسائل المواصلات كان قَصراً وحَصراً على النبلاء في عهد ما قبل «الأزمنة الحديثة».

واعتراضات كاسباروف على «عدالة المباراة» انعكاس لنمط الخطاب نفسه المستخدم في مقاومة التغييرات الاجتماعية والتكنولوجية. المجتمعات أيضاً تعترض لأسباب تبدو جيدة وحريصة على مصلحة البشر، بدءاً بالمعايير الأخلاقية، ومروراً بفقدان الوظائف، وصولاً إلى التحذير من الفجوة الاجتماعية. حجج مصوغة بعناية من الناحية البلاغية، لكنها قصيرة النظر من الناحية العملية. والواقع أن المجتمعات التي تستسلم لخطاب ذاتي يعفيها من عناء الخروج من منطقة الراحة هي المجتمعات التي تخسر في النهاية.

نستطيع بلا تردد أن نقول إن رد فعل المجتمعات إزاء الجديد هو العامل الأكبر في تحديد مساراتها، أكبر كثيراً من عامل الجغرافيا الذي تبناه مونتسكيو، أو عامل البيئة الذي تبناه غيره. اليابان على سبيل المثال تشغل الموقع الجغرافي نفسه، وتعيش في البيئة نفسها، قبل الإمبراطور ميچي وبعده. لكن التغيير الثقافي الذي تبناه مرتكزاً على الانفتاح على الجديد كان العامل الفارق في حظوظ البلد. وبإمكاننا أن نرى المقارنة نفسها من وجه آخر إن وضعنا سنغافورة على الميزان مع جاراتها، أو قارنّا شطري الجزيرة الكورية. الإنسان ينجح في استيعاب التغيير أو يخفق. أما «النجاح» في مقاومته وممانعته، كما يحلو للمجتمعات المتأخرة أن تسميه، فمجرد تلاعب بلفظ الفشل وتجميل وتمجيد له. أردت أن أدعم رأيي باستدعاء الكائنات الطبيعية التي لم تتأقلم مع التغيرات للإدلاء بشهادتها، لكنها انقرضت.

الآن، إن كانت قداسة الشطرنج الدنيوية في روسيا عمقت الصدمة من تغيير يطوله، فما بالك إن كان التغيير مرتبطاً بقداسة دينية لنمط زمني معين، ومتشعباً في تفاصيل الحياة. يجعل هذا مقاومة التغيير معركة دينية، الانتصار فيها انهزام للحياة.

كاسباروف من الذكاء بحيث أدرك أن الذكاء الاصطناعي ليس حرباً على البشر، بل مجرد ثورة صناعية جديدة عليه التكيف معها، فتبنى لاحقاً مفهوم «شطرنج القنطور». والقنطور حيوان خرافي له عقل إنسان وجسد حصان. والقصد الجمع بين الإبداع البشري وقدرات الذكاء الاصطناعي على الحساب وتحليل البيانات. انتقال كاسباروف من الخصومة مع الابتكار إلى التعاون معه نموذج يحتذى للمجتمعات. وما اكتشفه بنفسه لنفسه يجب أن نتبناه لأنفسنا: التقدم حتمي، استنزاف الجهد في مقاومته في كل ركن عبث وهزيمة للنفس. التطور يضيف للإنسان الذي يتبناه قدرات، ويضيف للمجتمعات فرص عملٍ ورخاءً ومستوىً معيشياً أكبر. أميركا لم تفلس حين تقلصت نسبة العاملين بالزراعة من 40 في المائة إلى 2 في المائة، بل توسعت في مجالات جديدة.

مفهوم القنطور صار أيضاً المفهوم السائد في إدارة الشركات الناجحة. يتولى الذكاء الاصطناعي الوظائف الروتينية؛ مثل تحليل البيانات الضخمة، وتوزيع المهام، وتقييم الأولويات، وكشف الثغرات. ويتفرغ الإنسان، متسلحاً بمعلومات أفضل، لاتخاذ القرارات الاستراتيجية وإضافة الإبداع والتفهم الشعوري.