ليست في الحقيقة «مائة عام»، بوصفها تعبيراً رمزياً مكتملاً، مثل «مائة عام من العزلة» في عنوان رواية ماركيز، بل مائة واثنان وثمانون عاماً من الحوار المستحيل في المكان اللبناني، منذ سقوط الإمارة الشهابية عام 1842 حتى حرب «حزب الله» والكيان الصهيوني عام 2024، التي دخلت منذ شهر فصلها الأخطر. وإذا شئنا الرجوع أبعد في الزمن، نجد بذور هذا الحوار المستحيل وجذوره، على مدى ثلاثة قرون من عمر إمارة الجبل المعنية، ثم الشهابية ضمن السلطنة العثمانية.

وبينما تتساقط حمم النار بلا توقف على أرجاء واسعة من لبنان، منذرة بما هو أعظم، يتوالى بلا توقف أيضاً سيل النقاشات والحوارات المباشرة في وسائل الإعلام على مدار الساعة، مكرراً المواجهات نفسها والمضامين نفسها، التي باتت، على حيويتها وحدّتها، رتيبة، مضجرة، وعبثية لا يستطيع أحدٌ فيها إقناع الآخر بأي شيء، (حوار الطرشان).

من عام 1842 إلى عام 2024، هناك منطقان ومشروعان فوق الأرض الواحدة، لا يلتقيان. يتحاربان، يخفتان، يتعايشان، لكنهما لا يلتقيان: المشروع اللبناني، والمشروع الإقليمي في لبنان. المشروع اللبناني الذي يتوق إلى الإفلات من نظام المحيط، السلطوي والأحادي، نحو أفق وجودي مختلف، منفتح ومتحرّر، والمشروع الإقليمي الذي يريد إعادته إلى نظام المحيط ودمجه فيه. حركة بنيوية ثابتة، لا مفرّ منها، تطبع المكان اللبناني وترسم قدره. كان صراع الحركة اللبنانية الطويل مع حركة الدمج في النظام العثماني، ثم الصراع مع حركة الدمج في سوريا الفيصلية، ثم في مشروع الوحدة القومية العربية، خصوصاً في نموذجها الناصري، ثم في مشروع الوجود الفلسطيني المسلّح وحلفائه في لبنان، ثم في مشروع سوريا البعثية الأسدية، وأخيراً في مشروع الثورة الإسلامية الإيرانية.

وها هي الآن المواجهة بين نهجين لا يلتقيان: المشروع اللبناني، والمشروع الإقليمي في لبنان في صيغته الإيرانية.

من جهة المشروع الإقليمي، ثمة تبرير كامل للحرب الدائرة، على الرغم من هول دمارها، وتهجيرها مليوناً ونصف مليون شخص، وغموض أفقها، لكون إسرائيل، وفقاً لهذا المنطق، لو لم يبادر «حزب الله» إلى مهاجمتها في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول)، نصرة لغزة، لكانت ستبادر في أي حال إلى مهاجمة لبنان. مقابل ذلك، يرى المشروع اللبناني أنْ لا علاقة للبنان بالحرب الإيرانية – الإسرائيلية الدائرة فوق أرضه، ولا كلمة له فيها ولا قرار؛ فهي مفروضة فرضاً عليه. والجهود الإيرانية لتكوين «حزب الله»، لم تكن للدفاع عن لبنان، بل من ضمن المشروع الإقليمي البالغ الطموح، وبذلت من أجله الغالي والرخيص، على أمل تحوّلها دولة عظمى ودولة نووية في المنطقة. وقد أمّن لها ذلك، على صعيد لبنان، الوصول إلى حدود فلسطين وإلى البحر المتوسط. وأدَّى قيام قوة حربية ضخمة فوق الأرض اللبنانية.وفيما يخصّ الكيان الصهيوني، يذكّر المشروع اللبناني بأن أهم دعاته، مثل ميشال شيحا وكمال الحاج وشارل مالك وسواهم، كانوا أول من رفض هذا الكيان وسلّط الضوء على مخاطره الكبرى. لكن هل يمكن تحميل لبنان وحده مسؤولية تحرير فلسطين دون جميع الشعوب والأمم؟ وهل يجوز زجّ بلد منهك تماماً مثل لبنان في أتون الحرب، بصورة مسبقة، ورغماً عنه، لافتراض أن إسرائيل يمكن أن تهاجمه؟ فما هذا المنطق؟ والمطلوب في المشروع اللبناني ليس التطبيع، بل العودة إلى هدنة 1949 التي احترمها الجانبان اللبناني والإسرائيلي حتى عام 1965، إلى أن دخل الوجود الفلسطيني المسلّح عنوة إلى لبنان، من بوابة حرياته، ثم حلّ محله «حزب الله»، ففقدت الدولة، فيما فقدته، حصرية السلاح وقرار الحرب والسلم، وصولاً إلى هذه المتاهة.