لعلّ طبيعة الخصومة (الصراع) الظاهرة بين طهران وتل أبيب هي الحالة الوحيدة في التاريخ المعاصر الذي لا تسير وفق القواعد المعروفة في الحروب والصراعات بل يجري ترتيب كل شيء بين الطرفين وفق حسابات دقيقة (مع مظاهر العداء الأيديولوجي والوجودي) المعلن.
وتجري هذه الترتيبات عادة بصفة سرية سواء بالتقاء مندوبين عن تل أبيب وطهران في عواصم امتهنت احتضان لقاءات الطرفين أو عن طريق وسطاء نشطين كما جرى الوضع في ترتيبات الضربة الإيرانية المنضبطة (الوعد الصادق) بدقة مطلع أكتوبر 2024 وكذا الرد الإسرائيلي المحسوب فجر يوم 26 أكتوبر.
والأعجب أن تتّفق معظم الصحف الأميركية (والغربية) الرئيسة على مصطلحات منضبطة لتوصيف هذا العشق الحرام بين الطرفين. على سبيل المثال تكرّرت تسمية الضربة الإسرائيلية بالضربة الانتقامية "retaliatory strikes/attacks" وهي جملة ردّدتها وسائل مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وسي إن إن والـ بي بي سي ومعظم الشبكات الإخبارية الأميركية. حتى وإن شذّت بعض وسائل الإعلام الغربية واختارت كلمة مرادفة لكلمة الانتقام مثل ما فعلت جريدة الغارديان التي استخدمت "reprisal attack" بما يعطي ذات المعنى ويخدم ذات الغرض.
ومن السخريات في هذه القصة التي تجري منذ عقود وتذهب دماء الضحايا هدرا أن الطرفين لم يعودا يخشيان التصريح والتلميح أن ما يجري هي مباراة شيطانية يتراقص فيها طرفا الصراع على أصوات الجماهير في الداخل الإسرائيلي والجوار العربي. ولهذا فلن يكون غريبا أن تعنون صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" قصتها الإخبارية في اليوم التالي للضربة الإسرائيلية بجملة مثيرة "IDF warns Iran not to ‘make mistake’ of hitting back" بما تحمله من تحذير جيش الدفاع الإسرائيلي لإيران من ارتكاب خطأ الرد على إسرائيل؛ خارج قواعد اللعبة.
ولهذا وعلى الرغم من إن إسرائيل تدّعي استهداف عشرين موقعا مهمّا إلا أن الطرفين لم يقدّما تفصيلات مهمّة مما يعني أن جولات الدوحة ومسقط وزيارات "بلينكن" قد أسهمت في وضع سيناريو معقول للضربة الإسرائيلية، وهو ما يمكن استنتاجه أيضا من تصريحات مسؤولين إيرانيين سابقين ولاحقين قبل الضربة المبرمجة. وقد تجنّب الإسرائيليون ضرب ما يُزعم أنها مواقع نووية أو منشآت نفطية مما قد يشير إلى أن لعبة الرأي العام أساس مهم هنا، إذ يبدو أن هناك حسابات دقيقة وراء اختيار الأهداف بما لا يؤثر على إيران فعليا ولا يحدث ردا سلبيًا في أسواق الطاقة. ومما يؤكد هذه الترتيبات والحسابات أيضا توقيت الضربة الإسرائيلية التي جرت بعد إغلاق معظم البورصات العالمية التي سيكون أمامها يوما الإجازة الأسبوعية لاستيعاب ما حدث بهدوء وبلا مفاجآت قد تهزّ الأسواق العالمية.
الإسرائيليون والأميركيون يعلمون جيدا أن ذوي العمائم في طهران ماكرون وماهرون في إجراء الصفقات السرية منذ السنوات الأولى للثورة حينما فاوض الملالي سرا (في الجزائر ومدريد) وهم يلعنون الشيطان الأكبر (عام 1981/1980) مندوبي الديمقراطيين والجمهوريين كلّا على حدة حول مكاسبهم من إطلاق سراح الرهائن الأميركيين الذين كانت تحتجزهم طهران. واستطاع الجمهوريون أخيرًا إقناع الإيرانيين بتأخير إطلاق الرهائن وإنهاء آمال كارتر في ولاية رئاسية ثانية بل وتوقيت إطلاق الرهائن الذي تم بعد دقائق من انتقال الرئاسة من جيمي كارتر إلى رونالد ريغان!
- قال ومضى:
إنها النار لا عجب.. والويل أولًا لمن جلب الحطب.
التعليقات