علي عبيد الهاملي

أرسل لي صديقي الكاتب معلّقاً على مقال الأسبوع الماضي «سيناريوهات اليوم التالي»:

سُئل شخص ذو معرفة، بعد أن أدلى بحديث طويل ومتشعب وتوصيف شمولي:

-أين نحن العرب؟

أجاب:

-نائمون في التاريخ، لا نريد أن نبرحه.

كتبت لصديقي:

-«نائمون في التاريخ» عنوان جميل لمقال.

تنازل لي صديقي مشكوراً عن استخدام العنوان، ومنحني حق استخدامه، فأرسلت له صورة اليدين المرفوعتين مضمومتين تعبيراً عن شكري لتنازله لي عن عنوان جميل ومعبر، وفكرة مقال.

النوم في التاريخ يمكن أن يكون حالة انسحابية، نستطيع أن نطلقها على أولئك الذين يقيمون في الماضي، رافضين الانتقال إلى الحاضر، معتقدين أن الماضي هو الأكثر أماناً، وأن الحاضر يحمل مخاطر كثيرة، والانتقال إليه مغامرة غير محسوبة، نتائجها قد تكون كارثية وغير قابلة للاحتمال.

كما أن النوم في التاريخ يمكن أن يكون حالة محبطة تنطبق على أولئك الذين يفضلون الإقامة في الحاضر تحت ضغط المخاوف التي تعتريهم من الذهاب إلى المستقبل، وهو خوف له عند هذا الفريق ما يبرره من تجارب السابقين، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يكون النوم في التاريخ مفيداً أو مضراً، وهل هو مزية أو عيب؟

هذا سؤال يمكن أن نعتبره سفسطائياً، شريطة أن ننزع عن السفسطة صفة تمويه الحقائق وقلبها، وصرف الذهن عن الحقائق والأحوال الصحيحة أو المقبولة في العقل، وتضليل الخصم عن الوجهة الصحيحة؛ تلك التهمة التي ألصقها بالسفسطة أعداؤها منذ نهاية القرن السادس قبل الميلاد، عندما ظهرت السفسطة بصفتها مذهباً فكرياً فلسفياً، وارتبط ظهورها بفن الخطابة والجدل.

التاريخ ليس فندقاً من الفندق الفاخرة كما يظن البعض، لأنه كثيراً ما يحمل من الآلام ما لا يمكن احتماله، والإقامة فيه قد تكلف كثيراً، فالتاريخ حافل بالقصص والمواقف الصعبة التي شكلت مسار الشعوب والأمم، إذ واجهت البشرية على مر العصور الكثير من الحروب والمجاعات والأوبئة التي تركت آثاراً عميقةً على حياة البشر، ولعل الحربين العالميتين الأولى والثانية تكونان خير مثال لهذه الآلام، بما جلبتاه من موت لملايين البشر، وبما سببتاه من خراب ودمار لبلدان كثيرة في العالم.

ما يحدث في عصرنا هذا لا يقل بشاعة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، فالمجازر التي نشاهدها اليوم تنم عن روح انتقامية لدى أولئك الذين يقومون بها في أنحاء كثيرة من العالم، مهما كانت المبررات والأسباب التي أدت لإشعال الحروب، والتي يتحمل وزرها أولئك الذين أشعلوها، وليس الأبرياء الذين يتم إزهاق أرواحهم، وهدم بيوتهم وتهجيرهم من مناطقهم، والدفع بهم إلى كارثة تتفاقم يوماً بعد يوم، بينما النائمون في التاريخ منفصلون عن التاريخ وعن الجغرافيا التي ما عادت تتسع لهم في ظل الخرائط الجديدة التي يتم رسمها للعالم، والتي تقوم على حذفهم منها، وهم يحسبون أنهم ما زالوا يقيمون في التاريخ ويصنعونه، ويحتلون الجغرافيا ويملكونها، في الوقت الذي يعيدون فيه التاريخ إلى الوراء، ويخسرون فيه حدود الجغرافيا.

النائمون في التاريخ هم الذين يتسببون في هذه المشاهد القاسية التي نراها كل يوم على شاشات التلفاز وصفحات الجرائد ووسائط التواصل الاجتماعي، بينما الذين يرفضون النوم في التاريخ هم الذين يمسحون دموع الأطفال، ويداوون الجرحى، ويوفرون الزاد والمأوى للذين هجّرتهم الحروب من منازلهم، وحرمتهم النوم في ديارهم، وألقت بهم إلى المجهول، بينما النائمون في التاريخ يهددون ويتوعدون، ويدعون الشعوب إلى الصمود والمقاومة والتصدي، ويطلبون من الناس أن يفخخوا أنفسهم ويفجروها في الآخرين، بينما الأعداء يصفقون لهم لأنهم يقدمون لهم المبررات كي يزدادوا شراسة وقتلاً وتهجيراً لهذه الشعوب، ويدمروا البيوت والمدارس والمستشفيات، وينشروا الخراب في كل مكان.

ليس صحيحاً يا عزيزي أن كل العرب نائمون في التاريخ، فثمة عربٌ استيقظوا منذ زمن وغادروا هذا التاريخ المعطوب الذي يعنيه ذاك الشخص ذو المعرفة، منطلقين نحو المستقبل.

هؤلاء هم أمل الأمة وعدّتها لاستئناف الحضارة والمشاركة في صنعها. أما أولئك النائمون في التاريخ فسوف يستيقظون يوماً ليجدوا القطار قد تحرك منذ زمن تاركاً إياهم في محطة قديمة متهالكة من محطاته، متقوقعين داخل عربة معطوبة لم تعد تصلح للذهاب أو العودة.