إعلان الميزانية هو ثاني أهم الأيام السياسية (بعد إعلان نتائج الانتخابات العامة) في بريطانيا.

الأربعاء، عندما وقفت راتشيل ريفز أمام البرلمان لتقدم مشروع ميزانية أول حكومة عمالية منذ 14 عاماً، توقعت أن تدخل التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى المنصب منذ تأسيسه في 1221، لكن التاريخ سيذكرها لأسباب أخرى؛ فإعلان الميزانية الأوَّلي للحكومة العمالية تأخر أكثر من 3 أشهر مع تسريب تفاصيل عن سياسات ضرائبية أدت لتغيرات في الأسواق، معظمها سلبي؛ لأن الأعمال والاستثمارات تفضل الاستقرار.

وبجانب أن رئيس البرلمان وجَّه تأنيباً شديد اللهجة لريفز، لإعلانها عن بعض سياساتها للصحافيين أثناء زيارتها لأميركا قبل أن تعرضها على مجلس العموم، فإن مشروع الميزانية جاء آيديولوجياً قبل أن يكون مالياً واقتصادياً. توجيهها اللوم لحكومة المحافظين وتحميلها مسؤولية مزيد من الضرائب، استغرق أكثر من ثلث خطابها الطويل، بادعائها أن المحافظين تركوا ثغرة مالية تتجاوز 22 بليون جنيه إسترليني في الخزانة، لكن تقرير الهيئة المستقلة التي تراجع مسؤولية الميزانية «نُشر في يوم الأربعاء نفسه» نَاقَضَ الادعاء مبيناً أن عجز الإنفاق في موازنة المحافظين «جرى الإعلان عنه في الربيع قبل الانتخابات» كان 9 بلايين و500 مليون جنيه إسترليني فقط. وحتى لو أصرت على أن العجز كان 22 بليوناً، فإن الضرائب التي أعلنتها الوزيرة بلغت 40 بليون جنيه إسترليني، يتفق الخبراء على أنها ستؤدي إلى تراجع في الاستثمارات والإنتاج الصناعي، وستؤدي إلى زيادة البطالة، وإنقاص الأجور، بل ستهدد الأمن الغذائي للبلاد أيضاً.

الميزانية الجديدة بطابعها الآيديولوجي تؤكد مخاوف رجال الأعمال والاقتصاد بأن نظام العمال الجديد بزعامة كير ستارمر وريفز هو نظام اشتراكي يستجيب لشعارات اليسار الطبقية بدلاً من تمهيد الأرض الاقتصادية والمالية للاستثمار والإنتاج، ورفع مستوى المعيشة؛ ففرض ضرائب جديدة والزيادة الحالية على تركة الميراث مثلاً أديا لأضرار عدة ـ وبتضافرها مع مشروع قانون المستأجرين، ورفع نسبة ضريبة زيادة الأصول ورأس المال «ضريبة تُحَصَّل على الزيادة في قيمة الأسهم أو العقارات عند بيعها» سَيُجْبَرُ كثير من مالكي أسهم شركات الإسكان وملاك العقارات إلى الإسراع ببيعها؛ ما سيؤدي إلى نقص في عدد الوحدات السكنية، ومن ثم زيادة أزمة الإسكان، وارتفاع الإيجارات.

اتحاد المزارعين حذر من أن إلغاء إعفاء المزارع الإنتاجية من ضريبة الميراث سيدفع الكثيرين إلى بيعها، والاستثمار في نشاطات أخرى؛ ما يهدد الأمن الغذائي؛ فالتوريث دون ضرائب كان لضمان استمرار الجيل الأصغر في نشاط إنتاج المزرعة .

وبجانب عدائها للمِلْكية الخاصة وأصحاب الاستثمارات، فإن آيديولوجيا الحكومة العمالية بالتزام معادلة الصفر البيئي خصصت 22 بليون جنيه إسترليني لما سمته «مشروع حبس غازات الكربون وتخزينها» ـ وبجانب أنها تكنولوجيا حديثة غير مضمونة النتائج، فلا يتضح ما هو عائد الاستثمار منها، فهناك فارق بين الاقتراض، وهو مصدر تمويل ما خصصته الميزانية للإنفاق على مشاريع وخدمات بدوافع آيديولوجية، والاقتراض لمشاريع ذات عائد لتسديد الديون، وخلق وظائف يدفع شاغلوها ضرائب الدخل للخزانة. كما أن إلغاء كثير من بنود اتفاقيات ازدواجية الضرائب سيؤدي إلى هروب الاستثمارات، وبالفعل نقل عدد من أصحاب الأعمال (نصفهم بريطانيون وليسوا مستثمرين أجانب) استثماراتهم إلى خارج البلاد قبل إعلان الميزانية، وسيتبعهم كثيرون في الأيام المقبلة. كما أن تحميل الزيادة في «رسم التأمين الاجتماعي» على صاحب العمل وحده سيؤدي إلى تجميد الأجور كي يعوض صاحب العمل الإنفاق الإضافي، وسيزيد من ثمن السلعة المنتَجة؛ ما يؤدي إلى زيادة معدلات التضخم. وهذا، بدوره، سيؤدي إلى رفع سعر الفائدة، بجانب أن زيادة مديونية الحكومة ستُبقي سعر الفائدة مرتفعاً، وهو ما حدث مع الحكومة العمالية (1974 - 1979) بعد ميزانية دينيس هيلي (1917 - 2015) الاشتراكية، التي أدت إلى هروب كثير من الاستثمارات، وارتفاع سعر الفائدة الذي أثَّر في الاستثمار الصناعي، وفي قروض المنازل الإسكانية عندما كان سعر الفائدة 17 في المائة في العام الأخير من حكم العمال بزعامة جيمس كالاهان (1912 - 2005). ومع ارتفاع معدلات التضخم، كان من الطبيعي أن تطالب الاتحادات العمالية والمهنية بزيادة الأجور، وتطور الخلاف إلى حدوث إضرابات وتعطيل الإنتاج، وهو ما حدث في شتاء المتاعب (1978 - 1979) الذي انتهى بسقوط الحكومة العمالية في 1979، وهذه السلسلة بدأت بميزانية آيديولوجية رسمها هيلي في 1974، وأدت بالفعل إلى إفلاس كثير من الصناعات البريطانية. ويبدو أن راتشيل ريفز ستدخل التاريخ بوصفها وزيرة المالية التي كررت أفدح أخطاء أحد سابقيها بدلاً من أن تتعلم منها.