تركت الضربات الإسرائيلية في 26 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إيران أمام معضلة كبرى وتحدٍ ليس بالسهولة التعامل معهما. شكّل هذا الهجوم الإسرائيلي العلني الأول على إيران وقضى على "حرب الظل" المستمرة نحو 15 عاماً. يكاد يتكوّن إجماع على أن الاستراتيجية التي اعتمدتها إيران منذ عقود في مواجهة إسرائيل قد سقطت. لا شكّ في أن هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وما تلاه من حرب إسرائيلية لا تزال مستمرة حتى الآن على غزة وتوسعها منذ منتصف أيلول (سبتمبر) نحو لبنان، قد قلب المعادلات القديمة، وعجّل بالصدام الإيراني-الإسرائيلي المباشر. استند المرشد الإيراني علي خامنئي منذ توليه منصبه على استراتيجية "الدفاع المتقدّم"، وساعدته الحرب الأميركية على العراق، وإزاحة صدام حسين عام 2003، على بناء قاعدة نفوذ واسعة في هذا البلد. واتسع النفوذ على نحو غير مسبوق إلى سوريا عقب اضطرابات ما سمي بـ"الربيع العربي"، ومنها إلى ترسيخ نفوذ موجود أصلاً في لبنان منذ الثمانينيات، بينما شكل الحوثيون في اليمن رأس حربة للنفوذ الإيراني هناك. وكان العصب الرئيس للنظام الإيراني هو المواجهة مع إسرائيل. لذلك، أنشأت إيران في السنوات الأخيرة ما بات يعرف بـ"دائرة النار" حول الدولة العبرية، من حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة إلى "حزب الله" في لبنان وفصائل "الحشد الشعبي" في العراق والفصائل الموالية لإيران في سوريا، إضافة إلى الحوثيين. هذا هو "الدفاع المتقدم" الذي استندت إليه إيران، بينما كانت "حرب الظل" دائرة مع إسرائيل، التي اغتالت علماء نوويين واختصاصيين في صناعة الصواريخ في داخل إيران، وقتلت قادة من الحرس الثوري في غارات على سوريا، فكانت طهران تردّ بهجمات على سفن تعود ملكيتها لرجال أعمال إسرائيليين في مياه الخليج، وبزيادة الدعم للفصائل المتحالفة معها في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن. الحرب الإسرائيلية، التي أضعفت "حماس" و"حزب الله" إلى درجة كبيرة، أغرت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالذهاب إلى إيران نفسها، فكانت الغارة على القنصلية الإيرانية في دمشق التي قتلت المسؤول في "فيلق القدس" في لبنان وسوريا الجنرال محمد رضا زاهدي مع مساعديه في الأول من نيسان (أبريل). وضع الهجوم طهران أمام موقف محرج، فهل تردّ مباشرة أم توكل لـ"أذرعها" في المنطقة الرد على استهداف موقع يعتبر جزءاً من السيادة الإيرانية؟ وزنت القيادة الإيرانية قرارها، وعمدت إلى ردّ مدروس في 13 نيسان (أبريل)، كان بمثابة أول هجوم علني ضد إسرائيل بالصواريخ والمسيرات. ومن جهتها، ردّت إسرائيل على الرد الإيراني بضرب منظومة رادار تابعة لبطارية صواريخ "إس-300" قرب أصفهان. لمست إسرائيل ضعفاً لدى إيران، فتمادت في حربها ضد حلفاء إيران، فاغتالت رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية في طهران في 31 تموز (يوليو)، كما ذهبت إلى ما هو أبعد عندما اغتالت الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في 27 أيلول (سبتمبر). مجدداً، وضعت إيران أمام الاختبار الاستراتيجي؛ عدم الرد مشكلة والرد قد يخلق مشكلة أكبر، فكان القصف الصاروخي "البطيء" على إسرائيل في الأول من تشرين الأول (أكتوبر). وجد نتنياهو في الرد الإيراني ذريعة كي يوجه ضربة إلى الدفاعات الجوية ومصانع الصواريخ الباليستية الإيرانية. الضربة الإسرائيلية أثارت نقاشاً داخلياً في إيران حول نجاعة الاستراتيجية المتبعة منذ عقود، والتي لم تؤدِ إلى حماية البلاد بما يكفي. والسؤال الأكبر الذي لا مناص منه الآن، ماذا في وسع القيادة الإيرانية أن تفعل وهي تواجه أقسى اختبار منذ 1979. هناك خياران كلاهما يتطلبان قراراً هو الأصعب على خامنئي: الذهاب في سياسة واقعية تفضي إلى مصالحة مع أميركا، أو الذهاب إلى القنبلة.