لعلها المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة التي يقف المرء فيها حائراً حول من سيصل إلى البيت الأبيض. ومبعث الحيرة هو ما تنقله نشرات الأخبار من تبدل سريع في مزاج الناخب الأمريكي، تجاه المرشحين الرئاسيين: كامالا هاريس ودونالد ترامب.

الناخب الأمريكي لا يهتم كثيراً بالسياسة الخارجية، والاهتمام يتركز باستمرار حول السياسات الاقتصادية، والوعود بالتغيير. وفي معظم تاريخ أمريكا المعاصر، كانت معادلة من سيصل إلى البيت الأبيض بسيطة وغير عصية على الفهم، وذات علاقة مباشرة بالتضخم والكساد، وارتفاع الضرائب وخفضها، حين يبلغ التضخم مداه، وترتفع أسعار المنازل والسيارات والطعام ومتطلبات التأثيث، وينوء كاهل الفقراء وصغار الطبقة المتوسطة بتكاليف العيش، يكون المطلوب وصول رئيس جمهوري لتقليص حالة التضخم.

العكس أيضاً صحيح، فبقاء رئيس جمهوري لأكثر من دورة من شأنه أن يرفع حالة الكساد، بما يؤدي إلى ارتفاع مستوى البطالة، وبالتالي انخفاض دخل الطبقة المتوسطة، وقد يتسبب في إقفال المؤسسات الصغرى غير القادرة على التنافس مع المؤسسات التي تبيع بالجملة.

والحديث هذا يعيدنا إلى جوانب مهمة في عقيدة الحزبين المتنافسين. الجمهوريون ينطلقون من القاعدة الأساسية للاقتصاد الرأسمالي، التي يلخصها آدم سميث في مقولة «دعه يعمل»، وخلاصتها الحرية الاقتصادية، بما يعني أن الدولة في ظل هيمنة سلطة الجمهوريين، لا تتدخل بشكل مباشر في الشأن الاقتصادي، بل تدع الحكم للسوق ولفائض القيمة ليقررا قيمة السلع، ومجمل الحركة الاقتصادية.

إن استمرار تقليص دور الدولة في تسيير دفة الاقتصاد، وتخفيض الضرائب، يعني ضمن ما يعنيه، تقليص عدد موظفي الدولة، إلى الحد الذي يشمل تخفيض أفراد الشرطة، والمؤسسات الأمنية الأخرى، بما يعني ارتفاعاً ملحوظاً لنسبة الجريمة، وتهديداً للسلم الاجتماعي.

الديمقراطيون يطرحون شكلاً آخر من أشكال الحكم يعبر عنه بدولة الرفاه، حيث تضطلع الدولة بتوفير الرعاية الصحية، وضمان مجانية التعليم، والتدخل المباشر في الشأن الاقتصادي، وخلق برامج تسهم في القضاء على البطالة. وتحقيق ذلك يتطلب رفعاً لنسبة الضرائب، وتحسين أوضاع السوق، وخلق مناخ أفضل يلبي المتطلبات الرئيسية للمواطنين. ولكن استمرار الرئيس الأمريكي، من الحزب الديمقراطي، لأكثر من دورة رئاسية، من شأنه أن يرفع حالة التضخم، بحيث يشكل عبئاً على حياة الطبقة المتوسطة والفقيرة، في نهاية المطاف.

ومن هنا فإن المجتمع الأمريكي بحاجة إلى رئيس جمهوري لينهي حالة التضخم، أو رئيس ديمقراطي لينهي حالة الكساد. وهكذا تسير عجلة دورات الوصول إلى البيت الأبيض.

هذه المقدمة تنقلنا إلى الانتخابات اليوم، ومن سيكون الفائز فيها؟ وأين يكمن وجه الحيرة في تقرير من سيكون الفائز، وفقاً للمعادلة التي أشرنا إليها؟

كان من المؤمل أن تكون كامالا هاريس، هي الأوفر حظاً في الوصول إلى البيت الأبيض، وذلك لأن الرئيس الأمريكي الراهن، جوزيف بايدن تسلم السلطة لدورة رئاسية واحدة، لم تبلغ خلالها حالة التضخم مداها الأقصى. يضاف إلى ذلك، أن بايدن رغم أنه ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، يقف في توجهاته السياسية وسطاً، بين عقيدتين: عقيدة الحزب الذي ينتمي إليه، وعقيدة الجمهوريين، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يدعم ترشيحه بعض قادة الحزب الجمهوري، ضد من يفترض فيه أن يكون مرشحهم. وهنا تحضر أسماء جورج بوش الابن، ودان كويل، وغيرهما من عتاولة الحزب الجمهوري، الذين لم يمنحوا تأييدهم للمرشح حزبهم، بل دعموا ترشيح بايدن.

نقطة التحول، التي ربما يكسب فيها دونالد ترامب، هي إعصار فلوريدا، الذي استغله بذكاء، حيث وقف إلى جانب الضحايا، يقدم لهم المساعدة والدعم، بينما نأت المرشحة الديمقراطية كامالا، والرئيس الحالي بايدن عن تقديم أي مساندة شخصية. وقد لعبت أجهزة الإعلام، من صحافة وتلفزة، دوراً رئيسياً في تضخيم دور مساندة ترامب، وتقديم النقد اللاذع لكامالا وللرئيس الحالي تجاه تجاهلهما إعصار فلوريدا.

تشير الكثير من أجهزة الأعلام إلى أن هذا الخطأ الكارثي لكامالا قد رفع بشكل كبير من نصيب ترامب، وقلب المعادلة رأساً على عقب، وجعل حظوظها في الوصول إلى البيت الأبيض تتقلص إلى حد كبير.

يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الأمريكيين يشعرون بالضيق من سياسة بايدن تجاه الحرب الدائرة في أوكرانيا، ويرون أن الدعم الأمريكي لحكومة زيلينسكي قد تسبب في إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد الأمريكي، يقابل ذلك وعد يتكرر من ترامب بإنهاء الحرب الأوكرانية في حالة وصوله إلى البيت الأبيض، وحل جل المشاكل العالمية، وإنهاء الحروب المشتعلة بما في ذلك الحرب الدائرة الآن في غزة ولبنان.

ورغم أن تحقيق وعود ترامب تجاه هذه القضايا هو أمور لا يمكن الجزم بها، لكن أرجحية التفضيل تبقى في صالحه، كون سياساته لم تجرب تجاه هذه القضايا، وبشكل خاص الحرب في أوكرانيا.

اختيار مرشح للرئاسة الأمريكية يبقى أمراً محيراً، لأن الوضع الاقتصادي الأمريكي ما زال في خانة «بين بين»، والأمريكي بطبعه يميل إلى من يحقق له مصالحه الاقتصادية بالدرجة الأولى، ووعود ترامب تجاه إنهاء الحرب في أوكرانيا تندرج وفقاً لرأي الكثير من الأمريكيين في خانة معالجة الوضع الاقتصادي في البلاد.

من سيصل إلى البيت الأبيض في ظل الأوضاع التي فصّلناها يظل محيراً، وليس علينا سوى انتظار ساعات محدودة لمعرفة النتائج.