تجاوز العقل البشري بمخترعاته قمم الطبيعة المألوفة، وصار رحماً مرضيّاً مولعاً بالمخترعات المتدفقة بالانبهار الدولي عبر عقول بشرية ذكيّة استشرست لدى خروجها نحو إدارة الغرائز الفجّة. لنقل إنّ العقول الذريّة مسكونة بالمفارقات بين مفهومي الجنة والجحيم عبر تدفق المخترعات. قد يلتصق بأمراض السلطات حنين لا واعٍ بأدوات القوة والحذف والإلغاء وللخرائب والأنقاض بدلاً من الحق بالحياة في المدن والقصور والبيوت والساحات الجميلة المترفة.

يورث التلذّذ «المرضي» بتطوير برامج تيسّر للحروب سرعة التشويه والإلغاء والسحق العام أطفالاً ونساءً وناطحات سحاب وضواحي مدن من بعلبك الأسطورية كمثالٍ على ما يحصل في لبنان إلى الضاحية الجنوبية لبيروت العاصمة العربية الجميلة التي يُنظر إليها عبر تقاذف الصواريخ مقبرةً مفتوحة لكأن النساء والأطفال كائنات لا تصرخ لدى خروجها أساساً من الأرحام، وإن خرجت اليوم فنزوحاً ذليلاً نحو المدارس والجوامع والكنائس والساحات العارية والشوارع و..و... إنّه الخروج الرحيم أو خروج الصدفة نحو بؤس «الحضارة» البشرية المدموغة بالقتل والإلغاء عبر أساطير التاريخ القديم.

نُقيم أمام الشاشات كالحشرات في جحيم لبناني امتهن تبادل الصواريخ لنشهد نكوصاً مرضيّاً لم نقرأه أو نشاهد صوره حتى في مجلدات الحربين العالميتين بدولها ومدارسها وموسوعاتها الزاخرة بشراسة الغرائز لا تتلذّذ إلاّ بالقتل والتمزيق والترك في العراء أو الدفن أبداً تحت الأنقاض.

إنّه فنون الجنون في صناعات الذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي؟؟

كانت الدكتوراه الأولى التي أشرفت عليها خلال 6 سنوات في المعهد العالي للدكتوراه في لبنان في «الذكاء الإصطناعي أو صناعة الذكاء»، للطالبة سالي حمّود، بعد طرحنا سؤالاً لافتاً، إثر دراستنا ل«الثورات العربية» من تونس إلى لبنان، حيث أقام فينا أكاديميّاً السؤال التالي: «هل يفكّ الذكاء الاصطناعي شيفرة الذكاء البشري ويُغيّر مجرى التاريخ نهائياً بما لا يمكننا اللحاق به؟

أجبنا عبر أطروحة ال413 صفحة، ونُشرت في كتابٍ للدكتورة بعنوان: «الذكاء الاصطناعي في تكوين السمعة الرقمية» صدرعن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في 2023، وأنصح بقراءته لريادته. توّجت الطالبة أطروحتها محاضرة في جامعة السربون في مدينة دبي المتألقة.

أو الذكاء الاصطناعي إذن؟

أجازف اليوم من لبنان الضحيّة، التفكير بالحيوانات المفترسة كيف تلحق بفرائسها أو ضحاياها تلامسها وتجرحها وتفترسها، لكنها تتركها برحمة الغريزة وحكمتها دون تمزيقها لكأنّ الخالق الزارع لبذور الرحمة في المخلوقات الوحشية بما يُسقط منطق الحروب لدى بعض زعماء القرن ال21. وهنا يجتاحنا سؤالان:

1- أتقفز الغرائز فوق العقول عبر عالم إنساني يتحوّل إلى رحم كونيّ يستقطب الجنسيات والثقافات المتنوّعة فاتحاً نوافذ العقول والميزانيات، متوخّياً أبداً الابتكارات الجهنمية السهلة الاقتناء والاستعمال، كتلك التي نعاينها في لبنان مسانداً غزّة؟

2- أيرقص أو يرقد إنسان هذا القرن متفرجاً على المذابح، ومفتوناً بتجربة براعة الأسلحة الفتّاكة من صنع يديه، مشدوداً لتطوير تجربة «الذكاء الذرّي»، عبر الكوارث الصاروخية، باعتبارها حقول تجارب تجاوزت مخيلاتنا الزاخرة بالحربين الكونيتين، وغيرهما من الحروب المعاصرة؟

أطمح حالماً بتذكير العالم المفتون ب«العصر السيبراني» والمنقوش دمغاتٍ لبرامج العصر اللامتناهية بمصطلح اللوغاريتم يذكّرنا فوراً بعالم الجبر الحديث أبو عبدالله محمّد بن موسى الخوارزمي (781م - 847م) الأب الروحي لعلوم الحاسوب الذي لم يخلع سرواله الأسود وقبعته البيضاء، وقد قضى حياته تاركاً معادلاته الرياضية في بيت الحكمة في بغداد في عصر المأمون، وعُهد إليه برسم أول خريطة للأرض، وعمل بإشرافه 82 جغرافياً من طلابه ومتابعيه. تجاوزت بغداد تخوم التبشير المُعاصر والإقناع الكوني الرقمي والبروباغندا الرقمية والعلاقات والسمعة الرقميّة وغيرها، بصفتها برامج وأنشطة أخرجها العالم المسلم لرقي الإنسان في كلّ زمانٍ ومكان وفق هوية الخير لا الشرور، بعدما تحوّرت وتمّ ضمها إلى عائلة الذكاء الاصطناعي.

لست معنيّاً بالانبهار الكوني بمولدات الذكاء الاصطناعي، بقدر الطموح إلى تجليس مسار التاريخ من بغداد العرب إلى عواصم العالم المعاصر، متذكّراً النعجة «دوللي»، التي قُدّمت وكأنها الأعجوبة عند ظهورها، ثم اختفت بكونها من نتاج الفنون التكنولوجية التي جعلت التجميع الذاتي نوعاً من التكاثر يسمح للبروتينات بإعادة إنتاج ذاتها.

يخضع هذا التوجه المعروف بالانكماش المتلاشي بإمكانيات مضاعفة قدراته وسهولة استعماله مبتكراً رقاقات للكمبيوتر تخضع ل«قانون مور» يبقيها تتضاعف كل 8 شهور في أحجام أجيالها، لتنخفض كلفتها بانخفاض حجمها، وتستمر بالتلاشي والانقرض بما يفوق التصور.

هكذا أصبح الحاسوب بحجم الخلية الإنسانية تُزرع اليوم في الأجسام والأدمغة للتحكم بها. وهكذا بات التكهّن شاقّاً بمستقبل أدمغة إنساننا الآتي الذي سيختلف عنّا كثيراً، لأنّ الترويج للذكاء الاصطناعي الذي يتدفّق بالآلات التي تعيد إنتاج ذاتها إلى ما لا نهاية، مقرون بأجهزة ذكية لها أبعاد الميكرون، أي واحد من الألف من المليمتر.

نعاني اليوم في غزة ولبنان، وسنعاني من مستقبلٍ يتحرّر من «عبودية» الجسد، مانحاً المخترعات برمجة تجعلها قادرة على وضع تصاميمها وإعادة بنائها بما ينافس العقل وحتى التفوّق عليه. هذا يعني وضع آلات فائقة الذكاء تعيد إنتاج ذاتها بذاتها وفق ظاهرة «النانوتكنولوجيا» بمعنى التصغير والتقزيم الشائع في عالم الإلكترونيات، عبر أجيال السيارات والقطارات والطائرات والصواريخ والمخترعات المتدفقة الذكيّة.