ثَمة مفاهيم، معظمها غير معروف وغير شائع، لا مكان لها في الصخب الإعلامي وحواراته الجدلية، لا بد من تبينها لإضاءة الطريق وإتاحة الرؤية حول مصير لبنان، أهمها:
ضرورة التمييز، أولاً، في رؤيتنا للواقع، بين نوعين من المجتمعات المعاصرة، «مجتمع الأفراد» السائد في العالم الغربي والعالم الصناعي عموماً، و«مجتمع الجماعات» السائد في عالمنا المشرقي. هما مجتمعان مختلفان بعمق، لا تصحّ فيهما المفاهيم نفسها، ولا تنطبق عليهما التوصيفات والحلول عينها. لكن على الرغم من هذا المعطى الأساسي، فإن تداخل المفاهيم والحلول وتخبطها وعبثيتها، ما زالت هي المهيمنة على الثقافة الإعلامية. من يدرك أن جميع الأنظمة التي توالت في المشرق، وأيضاً في المغرب، العربيين، طوال مائة عام بعد سقوط السلطنة العثمانية، لم تستطع تحويل جماعاتها إلى أفراد مواطنين؟ أكثر من ذلك، على مدى مائة عام اشتد تماسك هذه الجماعات الطائفية والمذهبية والعشائرية والإثنية والمناطقية. فكيف يمكن فهم الواقع الراهن بمعزل عن ذلك؟
ثم، ثانياً، إدراك طبيعة المشروع اللبناني في بيئته وفي المنطقة، للتمكن من رؤية الحاضر واستقراء الآتي. فهذا المشروع لا يقوم على القوة العسكرية أو الأمنية أو الديموغرافية، بل على القوة الحضارية، وعلى ثقافة الحرية، والانفتاح على العصر، والحداثة، والازدهار الاقتصادي، والرهان على نوعية الحياة البشرية. وهو مشروع يستمد متانته واستمراريته في الزمان من الخصائص الجغرافية - التاريخية لجبل لبنان، بوصفه حصناً قديماً للحريات وملجأ للجماعات المعتصمة به. والمشروع اللبناني المرتكز على هذا الجبل، استطاع التفاعل مع الحداثة في وقت جد مبكر، مع بدايات النهضة الأوروبية التي أنهت القرون الوسطى وأطلقت الأزمنة الحديثة. فقد انفتح مجتمع جبل لبنان على الحداثة قبل قرنين من سائر مجتمعات المشرق، حين تكرّس تواصله مع فلورنسا وروما وباريس منذ أواخر القرن السادس عشر، بينما لم تصل رياح الحداثة إلى المشرق إلا مع حملة بونابرت على مصر عام 1798 وإدراك محمد علي باشا أهميتها. فلا عجب في أن يكون للمشروع اللبناني دوره الرائد في تحقيق الإنجازات المعرفية والجامعية والتربوية والفكرية واللغوية والأدبية والإعلامية والطباعية والقضائية والاقتصادية والاستشفائية والصحية العامة والسياحية، وقيم الحرية والتسامح وقبول الآخر وطرق الحياة الجديدة، التي عرفها المشرق على مدى 114 عاماً من ظهور الكيان اللبناني الأول عام 1861 إلى عام 1975.
وثالثاً، لتبيُّن مصير لبنان الآن، يتوجب الوعي بالحركتين المتفاعلتين فوق أرضه على الدوام، واليوم أيضاً: المشروع اللبناني التائق إلى التحرر من قبضة المحيط السلطوي نحو أفق مختلف، والمشروع الإقليمي في لبنان العامل على إعادته إلى قبضة المحيط. هذا الصراع هو أحد أهم المسالك لتبين معنى التاريخ اللبناني. المشروع اللبناني يبقى هو نفسه، والمشروع الإقليمي في لبنان يرتدي أشكالاً مختلفة باختلاف المراحل. كان هو على مدى زمني طويل مشروع الوحدة العثمانية، ثم حلّ محلّه بعد انهيار السلطنة مشروع الوحدة السورية، في صيغته الفيصلية الأولى، وفي صيغته البعثية، وفي صيغته السعادية، وقد حلّ معه وبعده مشروع الوحدة القومية العربية، خصوصاً في طبعته الناصرية.
رابعاً وأخيراً، لمعرفة إلى أين لبنان، لا بد من الإدراك أيضاً أن التحول هو سمة الواقع الدائمة، وأن الحاضر؛ كل حاضر، أكثر هشاشة مما يبدو عليه. ولا يكون التحول إلا بتلاقي العوامل الداخلية والعوامل الخارجية التي تحدثه في ظرف محدّد. يملك المشروع اللبناني عوامل داخلية مهمة ومؤثرة تتمثل في رسوخه واستمراريته وإنجازاته. وإذا كانت صورته الثقافية، وانتشار مهاجريه الواسع، يدعمانه في الخارج، فلم يكن لهذا المشروع أي تأثير يُذكَر على العوامل الخارجية التي أنقذته في كل مرة وهو في الرمق الأخير. كانت حركة التاريخ تصب من تلقائها في مصلحته. أي دور كان له في حملة نابليون الثالث على الشرق عام 1861؟ وأي دور كان له في انتصار فرنسا وبريطانيا على ألمانيا والنمسا وتركيا في الحرب الكونية الأولى عام 1918؟ وأي دور مؤثر كان له في الانقلاب الأميركي والغربي على النظام السوري عام 2005؟ في كل مرة كان حاضراً وحيّاً بوصفه عاملاً داخلياً فقط، من دون تأثير يذكر على العوامل الخارجية الذاهبة في اتجاهه. هل يتكرر ذلك هذه المرة أيضاً عام 2024، بنتيجة الحرب الدائرة بين الكيان الصهيوني وأميركا والغرب من جهة، وإيران من جهة أخرى، والتي ليس له تأثير فيها؟
التعليقات