يعرف العالمون بتفاصيل نقل الصورة على الشاشة الصغيرة، أن نقلها ممكن بكاميرا واحدة في حالة، وأنه ممكن بكاميرتين في حالة أخرى، وأنه ممكن بأكثر من كاميرتين في حالة ثالثة.

ولكن الحالة الأولى تظل فريدة من نوعها، لأن الشاشة فيها لا تستطيع استقبال مشهدين في إطار واحد، لا لمشكلة أو عيب في الشاشة، وإنما لأن الكاميرا تظل تتنقل من مشهد إلى مشهد دون الجمع بينهما، فإذا ركزت عدساتها على وجه الضيف في برنامج مثلاً، غاب عن المشاهدين وجه المذيع، فإذا عادت الكاميرا إليه، اختفى منظر الضيف إلى أن تعود إليه الكاميرا نفسها من جديد، وبغير قدرة على جمع المشهدين في كادر واحد أمامنا.

وإذا ما دققنا النظر في منطقتنا العربية فسوف يتبين لنا أنها تعيش منذ فترة أسيرة في قبضة حالة مماثلة لهذه الحالة الأولى، فكأن يداً خفية تمسك كاميرا واحدة للأحداث فيها، وتُحركها من مشهد إلى مشهد على الشاشة ذاتها أمام جمهور المتابعين.

إن غياب صورة الضيف في برنامج الكاميرا الواحدة لا يعني أنه غير موجود ولا أنه انصرف من الاستوديو، أو من اللوكيشن، بلغة أهل التصوير، فهو موجود في مكانه وموضعه لم يغادره، وكل ما حدث أن الكاميرا تحولت عنه، ولذلك، فإنه سرعان ما يُطل علينا نحن مشاهديه من جديد في اللحظة التي تعود فيها كاميرا البرنامج إليه.

شيء من هذا بالضبط تجده في هذه المنطقة من العالم، التي كلما طرأ فيها حدث على سطح الأحداث، بدا الأمر كأنه هو الحدث الوحيد الذي يملأ سماءها أو فضاءها، ولكن الحقيقة أنه هو الذي تحولت إليه كاميرا اليد الخفية في منطقتنا، فإذا مضى زمن طويل أو قصير عادت كاميرا هذه اليد إلى المشهد القديم الذي كانت قد تحولت عنه، والذي كان قد وقع الظن لدينا أنه انقضى ولم يعد له وجود. فالحقيقة في حالة كهذه أنه اختفى عن الأنظار، وهناك فارق جوهري بين أن يكون الشيء قد اختفى وبين أن يكون قد انقضى.

خُذ المشهد السوري مثالاً عندما تحولت إليه الكاميرا الواحدة في اليد الخفية فملأ الشاشات والصفحات، فهو لم يكن من قبل في بؤرة الصفحات والشاشات ولا حتى على هوامشها، ولكنها الكاميرا الواحدة مرةً ثانية التي إذا تحولت عن شيء أحضرت سواه في بؤرة النظر، وبغير أن يكون الشيء الذي تحولت عنه قد راح إلى حيث لا يعود الذاهبون.

ففي لحظة اتجهت كل العيون إلى حلب، حيث الجماعات المسلحة كانت تهاجمها وتفرض السيطرة على مواقع استراتيجية فيها. وفي لحظة تالية لهذه اللحظة الأولى، كانت مدينة إدلب تنافس حلب في جذب الانتباه. وفي لحظة ثالثة، جاءت حماة لتزاحم حضور حلب وإدلب معاً. وفي الحالات الثلاث كانت عيون الكاميرا الواحدة مفتوحة عن آخرها على موقع سوريا فوق الخريطة، وكانت جوانب هذه الخريطة تضيء كما لم يحدث أن أضاءت منذ سنين!

قبل اللحظات الثلاث كانت الكاميرا هناك في لبنان، وكانت الهدنة التي جرى الاتفاق عليها كأنها إشارة إلى أن العدسات على موعد مرتقب للانتقال إلى مشهد آخر.

ولم يكن هذا يعني أن المشهد في لبنان قد مضى وانقضى، بل بالعكس كان وجوده يتفاعل، وكانت خروقات الطرف الإسرائيلي لاتفاق الهدنة تتواصل، وكان الطرف اللبناني يشكو من الخرق المتكرر ويُحذر من عواقبه، ولكنَّ الوعي العام كله كان هناك مع الكاميرا في مشهدها الجديد، والانتباه كله كان متجهاً إلى هناك يتابع ولا يكاد يصدق.

ومن قبل المشهد في لبنان كان هناك مشهد أول في قطاع غزة، وهو مشهد استأثر بالكاميرا بمفرده لعام وبعض العام، فلما تحولت عدساتها عنه جزئياً إلى لبنان، بدا كأنه قد مضت أيامه وأحداثه، ولم يكن هذا صحيحاً ولا دقيقاً بحال.

نقرأ مثلاً في تحذير صادر عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) أن إسرائيل تمارس عمليات إبادة لعائلات بكاملها في شمال القطاع، فلا نكاد نصدق أن يكون هذا قائماً وجارياً في وقت تنصرف فيه الكاميرا بكل زواياها إلى حيث حلب، وإلى حيث إدلب، وإلى حيث حماة، وإلى حيث لا مكان للقطاع ولا لعمليات الإبادة الكاملة التي تجري فيه. ونقرأ عن الخرق المتكرر للهدنة في لبنان، فلا تملك إلا العجب من ابتعاد الكاميرا عمَّا كانت إلى أيام معدودة على أصابع اليدين لا تتابع سواه.

في حالة برنامج الكاميرا الواحدة على الشاشة يحتاج الأمر إلى مصور محترف يحرك الكاميرا في يده، حتى لا يشعر المشاهد بفجوات في أثناء الانتقال من مشهد إلى مشهد، وحتى ينقل الجمهور من مشهد إلى مشهد آخر يليه بغير أن يقع في فراغ.

وفي حالة كاميرا اليد الخفية الواحدة في المنطقة أمامنا، نرصد المحرِّك المحترف أيضاً، فلا يغيب المشهد في غزة عن عين الكاميرا طويلاً، ولا كذلك تغيب عنها مشاهد الخرق المتكرر هناك في جنوب لبنان، ولكن القصة أن مشهداً جديداً طرأ فحاز الأولوية وحصل على الاهتمام، وتركزت عليه المشاهدات بعد ذلك من كل اتجاه.

ولأن حدوداً مباشرة تربط أرض فلسطين بلبنان بسوريا، ولأن المشاهد الثلاثة تقع في دائرة واحدة، فإن حركة الكاميرا في اليد الخفية بَدَت سلسة وهي تتنقل بغير عقبات أمام العين التي كانت بدورها ترى وتتطلع، ولكنَّ هذا لا ينفي أن اليد الخفية التي تُحرك الانتباه من موقع إلى موقع، كانت تفعل ذلك عن قصد في التحريك، وعن وعي بدوافعه.