أمينة خيري

يمضي الكثيرون الشهر الأخير من العام في إعداد جردات لعام سبق. قد تكون الجردة رصداً لأهم ما شهده العام من أحداث على صعيد الأسرة أو الدولة أو الكوكب. وقد تكون تقييماً لما تم إنجازه أو الإخفاق فيه على أصعدة تتعلق بالصالح البشري العام، مثل قضايا المناخ أو البيئة أو التوزيع العادل للموارد أو محاربة الفقر أو تطويق الفساد.

وهناك من يجد نفسه في الأيام الأخيرة من العام مضطراً أو في حاجة إلى فهم ما جرى على مدار العام، معتبراً الفهم حتمياً من أجل حياة ذات معنى.

هذا العام، تبدو محاولات فهم ما يجري حولنا في المنطقة العربية أكثر صعوبة. متابعة الأحداث سهلة، أما الفهم فمستعص. المتابعة تطاردك أينما كنت. إن هربت من الصحف والمواقع الخبرية، فالتلفزيون أمامك، وإن نجحت في تفاديه، فـ«السوشال ميديا» تحاصرك، وحتى لو برعت في التخفي، فإن دوائر الأهل والأصدقاء ستمطرك وتعلمك بما يجري، شئت أو أبيت.

محاولات فهم ما يجري في المنطقة العربية، أو في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة، لم يعد خياراً أو رفاهية. وحتى أولئك غير المتأثرين بشكل مباشر بما يحدث، أو غير المهتمين بتوسع رقعة الصراع وتفاقم تداعياته، فإن مجريات المنطقة ستؤثر عليهم حتماً. لذلك، فإن الفهم يقينا شرور الإغراق في التجاهل أو الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم. الفهم يمنحنا فرصة النجاة بالنفس، وربما بالآخرين إن أرادوا.

شهد عام 2024 سلسلة متصلة الحلقات من الأحداث الجسام. من استمرار للحرب في غزة في أعقاب العملية التي قامت بها «حماس» يوم 7 أكتوبر عام 2023، إلى تمدد الأثر إلى الضفة الغربية وتجلي الرغبة الإسرائيلية في ضمها، وهي الرغبة التي «تخدمها الظروف والمجريات»، إلى تقوية شوكة العديد من «اللاعبين الثانويين» في المنطقة، ومنها إلى وصول قطار الصراع إلى لبنان وتنفيذ ضربات كان في إمكان الأطفال أن يتوقعوها ضمن قائمة توقعات اليوم التالي للسابع من أكتوبر 2023. وبين ليلة وضحاها، عاودت سوريا دخولها مشهد الحرب والاقتتال ببزوغ نجم الميليشيات المسلحة مجدداً، والتي تحظى بمسمى «المعارضة المسلحة»، وما زال قوس الصراع مفتوحاً مع اقتراب العام الساخن الحاسم من نهايته.

ومع تعقد المشهد، تتعقد وتتعرقل محاولات الفهم، لكن على الأقل لدينا بضعة مفاتيح وعدد لا بأس به من أطواق النجاة. الفصل بين ما جرى في السابع من أكتوبر 2023، وتوسع قاعدة الصراع وتمدد شظايا الحرب إلى لبنان، وعودة سوريا إلى مشهد صراع دام غير محمود العواقب، بينما الأوضاع في العراق واليمن وليبيا والسودان أقل ما يمكن أن توصف به هو الهدوء والسكينة، هو إصرار على رفض رؤية المشهد الأكبر. وهو أيضاً إصرار على التعامل مع السياسة والمصالح والقوى الكبرى والصغرى وما بينهما وكأنها أمور قائمة على مشاعر إما رومانسية أو عدائية، استلطاف أو استسخاف. وربما يكون إفراطاً في نوستالجيا الشعارات وفانتازيا الأفكار.

يجدر بنا مع قرب انتهاء عام صعب، وبداية عام جديد نأمل أن يكون أقل صعوبة، أن نفكر في مجريات المنطقة بقدر أوفر من العقلانية. ولأن البعض يعتبر عقلانية التعامل مع السياسة بمفهومها الحقيقي وهو توازنات قوى ومصالح شعوب واستشرافات مستقبلية، والاقتصاد بتعريفه الفعلي حيث معادلات حسابية وحسابات مكسب وخسارة اجتماعية وسياسية أيضاً، وكأنها ابتعاد عن قيم الحق والخير، وتخل عن الضعفاء والمظلومين، فإن أجواء النهايات التي تعقبها بدايات ربما تشجع على التخلي – ولو مؤقتاً - عن عوالم الخيال وتحويل الأهداف منزوعة المنطق خالية الواقعية إلى شيء قابل للتحقيق.

المسار السياسي وتغليب الحكمة هما السبيل الوحيد لتحقيق علاجات مستدامة لصراعات المنطقة التي سيصل لهيبها إلى الجميع حال استمرارها. ثلاثي مصر والإمارات والسعودية لا يتوقف عن قيادة المسارات العقلانية المعتمدة على السياسة، لا إشعال المزيد من الاحتقان، والحكمة بديلاً عن الرعونة، مهما بدت الرعونة أكثر جاذبية وتأثيراً في دغدغة المشاعر الشعبوية.