إن الأفراد والمجتمعات لا يشعرون بالأنس الدائم في ظل ابتعاد الحس الدافق بين المكان والإنسان وسلطة المركز، هذا الحس الذي يتسرب بين خلجات الوجدان لا يجد له مستقى يروي عطشه سوى بالاهتمام والتلامس المعرفي مع كل مكونات البنية الاجتماعية، وكذلك المفاهيم المتقاربة بين الفكر والهموم المشتركة، في فعل شاغل لكل الأطراف، إنه التسرب الوجداني -كما أسماه علم نفس الجمال- لما تعمل عليه القوى الناعمة من ذلك التسرب.

في هذه الأيام استقبلت جمهورية مصر الحبيبة وفدا رفيع المستوى يترأسه معالي وزير الثقافة السعودي سمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، ويضم الوفد كلاً من الدكتور عصام بن سعد بن سعيد، وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء، ونائب الوزير حامد بن فايز، ومساعد الوزير راكان بن إبراهيم الطوق، وبصحبة معالي السفير السعودي بالقاهرة صالح الحصيني ووكيل الوزارة للعلاقات الثقافية الدولية المهندس فهد بن عبدالرحمن الكنعان. وقد يطفو على السطح أن هذه الزيارة مجرد بروتوكلات ثقافية دولية أو ما شابه.

لكنها في حقيقة الأمر تعكس أمورا وطموحات كبيرة تتوغل في أعماق الثقافتين وخاصة في وجدان القاعدة العريضة للأفراد ولكل المهمومين بالمعرفة وبالثقافة، مما يعمل على توطيد ذلك التلامس بين شعبين توءمين تكونت ثقافتهما من محتوى عربي واحد وهوية عربية واحدة، ومن هناك تصبح هذه الزيارة التاريخية همسا في أذن كل من تسول له نفسه بأي تفرقة بين الثقافتين، وتؤكد على ربط عرى الحس المعرفي والوجداني لجميع الأفراد من قاعدة المجتمعين الطامحين لتقوية أواصر هذه الرابطة قوية العرى.

فمنذ تأسيس وزارة الثقافة السعودية -في عهد سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين سيدي محمد بن سلمان حفظهما الله- وهي تعمل على شمولية الثقافة العربية ووحدتها والصعود بها إلى مصاف العالمية وهذا مطلب كبير وشاق؛ إلا أنه قفز بنا إلى المصاف المنشودة في فترة وجيزة في عمر الزمن تقاس بلمح البصر، وهو مجهود كبير مر بكثر من الجهد والمال والجد والإخلاص المتناهي في سبيل تحقيق الرؤية والعمل على منتجاتها في وقت يسابق الزمن، ومن هنا أصبح لوزارة الثقافة السعودية بقيادة معالي الوزير الشاب الطموح بريق تحتفي به دول كبيرة وفاعلة ومؤثرة مثل دولة مصر الحبيبة.

فإذا ما تأملنا مجريات هذه الزيارة لوجدنا محفلا لم نعهده من قبل، يتجلى ذلك في استقبال فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي لمعالي الفرحان والوفد المرافق له، كما أن كلمات الفرحان في خطابة وفي لقاءاته بالرموز الأثرية والتراثية والثقافية بشكل عام، والذي اهتمت به الأواسط الإعلامية بشكل خاص، تضع لنا استراتيجية كبيرة في ربط الهوية والثقافة بالقاعدة العامة لكلا الشعبين، ومنها للعالم أجمع، ولتأكيد هذه الرابطة الكبيرة بوجدان شعبيهما وهذا إن جال بخاطرنا مغزى لها، فهو بدون شك وضع حجر صلد في طريق من يحاول تفتيت اللُحمة العربية في هذه الظروف الي يمر بها وطننا العربي، ولما لهذه القوى الناعمة من فعل نافذ في إيقاظ الوعي، والذي ترتكن إليه السياسات الدولية والمحلية في مواجهة موجات من التقلبات الفكرية وخاصة في يومنا هذا وهذه مهمة شاقة كما أسلفنا.

إن لإيقاظ الوعي نظريات، ولها مسالك ومدارك في إطارها الفلسفي وهو بلا شك ما يعمل على صياغة الوجدان لأفراد المجتمع ككل، هذه المسالك تتخلل الوجدان بدون شك، فالوعي لا ينحصر على المعرفة كثقافة فحسب، بل بفنون فاعلة وهادفة تتجاوز بها إلى مستويات عدة ومنها (الوعي القائم، الوعي المحتمل، ثم الوعي الممكن وهو ما تقوم به القوى الناعمة بكل تأكيد)، فالوعي الممكن وهو أعلى مراتب الوعي والذي لا بد أن يمر بمرحلتيه السابقتين والذي هو دور وزارات الثقافة والإعلام في كل بلاد العالم. فهل نزلنا إلى ساحة النزال لتطوير هذا الوعي؟ وهل كانت مجتمعاتنا تتجاوز الوعي القائم إلى الوعي الممكن وخاصة في تخبط الكثير من الأفكار التي أنتجها ذلك الانفتاح المعرفي العالمي بحديه على السواء؟

وببساطة شديدة نقول إن الوعي القائم كما عرفه الفلاسفة هو قدرة المرء على إدراك واقعه من خلال عنصري المعرفة والشعور. أما الوعي المحتمل وهو ربط حدود الوعي البشري بعدة جوانب منها التاريخية والجغرافية والفنية والأخلاقية والحضارية، أما الوعي الممكن فهو يتعدى كل ذلك بكثير إذ أنه يتنامى بكل ما سبق حتى يصل إلى التغيير والإبداع الفكري بذات نقدية وفنية وتحليلية، تعمل على البناء والإبداع الفكري والأدبي والفني والحضاري وهو ما ركن إليه معالي الوزير الفرحان في عدة اقتراحات تمت في أروقة ثقافة البلدين.

فزيارة هذا الوفد وبكثافة مجرياته والاهتمام به من قبل كل السلطات ليحمل في طياته كل المعاني والتي من أهمها تطوير الوعي بمراحله سالفة الذكر، ولذا نجد اقتراحات معالي الوزير الفرحان خلال لقائه بمعالي وزير الثقافة المصري أحمد هنو تناقش العديد من تلك المقترحات، التي تعكس طموحات أبناء البلدين، لتطوير التعاون الثقافي، من بينها: " إنشاء بيت ثقافي بالقاهرة يكون بمثابة منصة تجمع المثقفين والفنانين لتنظيم فعاليات مشتركة، تبادل الخبرات التدريبية لتأهيل أجيال جديدة من الموسيقيين والفنانين، دعم المشاريع الفنية المستدامة، تنمية البنية التحتية الثقافية من خلال مبادرات مبتكرة تشمل المكتبات الرقمية والمشاريع الفنية المتنقلة"

إن هذه الزيارة الكريمة -وبما تحمله من الاحتفاء بها- لتعكس لنا مدى فكر كل هؤلاء القائمين على الثقافة وصناعتها بوعي يعلم مداركها ومدى صياغة الوجدان الجمعي، ليحملنا في نهاية المطاف إلى ذلك التلامس المعرفي بين القاعدة والمركز، في صناعة الوعي العام.