مع تسارع الأحداث في الشرق الأوسط وانشغال العالم بالتطورات الكبيرة في سوريا منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد، يستمر العد التنازلي لفترة الستين يوماً التي حددها وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل من أجل أن يسلم "حزب الله" سلاحه جنوب الليطاني للجيش اللبناني ويسحب مقاتليه شمالاً ويسمح للجيش بمصادرة مصانع الأسلحة وإقفال المنافذ البرية والبحرية والجوية أمام دخول الأسلحة لجهات غير شرعية.
ومن المفترض أن تنسحب إسرائيل مع نهاية هذه الفترة من القرى التي تسيطر عليها في جنوب لبنان بعد أن تتأكد لجنة الإشراف الدولية بقيادة الجنرال الأميركي جيمس جيفرز من التزام الجانب اللبناني، وتحديداً "حزب الله"، بتنفيذ التزاماته كاملة. إنما التأخير بالتنفيذ من جانب "حزب الله" يطرح تساؤلات حول أهدافه المحتملة والخيارات أمامه. حتى هذا اليوم لم يسلم "حزب الله" أياً من أسلحته جنوب الليطاني للجيش اللبناني، في وقت تغير طائرات ومسيرات إسرائيلية يومياً على آليات وأشخاص تقول إنهم عناصر للحزب يحاولون نقل أسلحة إلى أماكن أخرى.
طبعاً، لم يكن هناك أي رد من جانب الجهات الرسمية وقيادات الحزب تتعدى تصاريح الإدانة. ويعتقد بعض المراقبين أن سكوت الحزب يعود إلى وجود جانب سري من اتفاق وقف إطلاق النار يعطي القوات الإسرائيلية حرية الحركة داخل لبنان ضد ما قد تعتبره مصدر تهديد لها. لم تنهِ إسرائيل الحرب ضد "حزب الله"، وبالتالي فإمكانية اشتعالها قائمة. فالقوات الإسرائيلية لا تزال في جنوب لبنان وتستغل الوضع الحالي لتفجير ونسف المزيد من المنازل بهدف إزالة قرى من الوجود ومنع سكانها من العودة لفترة زمنية لا أحد يعلم مدتها، كما أن مسيّراتها تكاد لا تفارق أجواء العاصمة والضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق أخرى.
استغلت إسرائيل سقوط النظام السوري لشن سلسلة غارات دمرت ترسانة الجيش السوري من السلاح والصواريخ بالإضافة لما بقي لميليشيات إيران و"حزب الله" من مخازن ومصانع للصواريخ، فوق الأرض وتحتها وصولاً إلى الأنفاق المنتشرة على الحدود اللبنانية - السورية شمالاً وشرقاً. هذه الضربات أفقدت الحزب ما كان بقي له من صواريخ وأسلحة في سوريا، كما عقّدت عملية تدمير الترسانة العسكرية للجيش السوري إمكانية استخدامها من مجموعات من جيش النظام المنهار لدعم ثورة مضادة تغير الواقع المستجد، حيث أدت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة على الحكم إلى إغلاق خطوط الإمداد من إيران لـ"حزب الله".
وضع هذا الواقع "حزب الله" أمام خيارين: إما القبول بالأمر الواقع وتسليم سلاحه ومصانعه وصواريخه للجيش اللبناني وحل الجهاز الأمني والتحول إلى حزب سياسي فقط، أو المماطلة والتغاضي عن قصف إسرائيل لترسانته جنوب الليطاني والاستمرار بما لديه من أسلحة شمال الليطاني على أمل حدوث تطورات أو مفاجآت داخل لبنان أو خارجه تسمح باستمراره تحت عنوان المقاومة المسلحة، نظراً لما قد يوفر ذلك من منافع سياسية واقتصادية. فهو ربما يراهن على انتشار الفوضى في سوريا نتيجة فشل السلطات الحالية في السيطرة على الوضع، وفي حال الفوضى سيتمكن الحرس الثوري من فتح خطوط إمداد جديدة للحزب.
وربما يراهن بأن إسرائيل ستكتفي بما حققته ولن تستأنف حربها ضده بعد استلام الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب السلطة، وهو كان حثّ إسرائيل على ضرورة إنهاء الحرب قبل استلامه الحكم. لكن الوقائع الميدانية تشير إلى وجود زخم دولي وإقليمي لقطع أذرع إيران، وصل إلى حد قبول دول إقليمية وغربية مناهضة للجماعات الإسلامية بدور الفصائل المسلحة السورية وإعطائها فرصة لتبرهن قدرتها على التخلي عن الثوب الأصولي وإدارة فترة انتقالية نحو حكومة ديموقراطية تنال ثقة الشعب والمجتمع الدولي. فأقوى مؤسسات الإعلام في العالم العربي تتابع أعمال السلطة الانتقالية في دمشق وتعطيها فرصة لإظهار كفاءتها.
كما تذكّر التغطية الإعلامية بجرائم نظام الأسد ضد شعبه ومدى الضرر الذي تسببت به الميليشيات الإيرانية لإقناع الرأي العام بضرورة إعطاء فرصة للسلطة الانتقالية. كما قررت عدة دول أوروبية التواصل مع السلطات الجديدة وتقديم مساعدات بعشرات الملايين دعماً لسوريا.
وأعلنت الإدارة الأميركية عن نيتها التواصل مع الحكومة الجديدة وإعطائها فرصة لإثبات نفسها. فهذه جميعها مؤشرات إلى وجود غطاء دولي، وإن كان مع تحفظ بعض الجهات، إلا أنه يوفر وقتاً وقدرات للسلطات الجديدة لتنجح. وتتحدث معلومات من داخل العراق عن اتصالات حثيثة من الداخل والخارج مع الحكومة في بغداد لحل الميليشيات المدعومة من إيران.
وتشدد المصادر المطلعة على جدية التحذيرات التي تم إيصالها لرئاسة الحكومة العراقية من خطورة الوضع وأهمية حل مسألة الميليشيات في أقرب وقت. هذا في وقت تشير تقارير إسرائيلية إلى تحضيرات للقوات الجوية لشن ضربات بعيدة المدى يرجح البعض أنها قد تكون للمنشآت النووية الإيرانية أو حتى ضد بنية تحتية بهدف إشعال ثورة شعبية ضد النظام. وتستشعر طهران خطورة الوضع، ولذلك قامت بسحب العديد من مستشاريها من ساحات المنطقة، وأبلغت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموافقتها على فتح منشآت فوردو أمام فرق التفتيش – وهو كان مطلباً رئيسياً رفضته إيران سابقاً.
ويستمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في سياسته المعتمدة منذ هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 والقائمة على إطالة الحرب وتوسيعها من أجل البقاء في الحكم والهروب من تحقيقات الفساد بحقه. وقدم عملياته في سوريا على أنها حرب لإسرائيل على جبهة جديدة رغم عدم وجود أي جيش يقاوم. فهو بحاجة لاستمرار الإنجازات لتحسين صورته أمام الرأي العام المحلي. وبناء على كل ما تقدم، فإن الظروف ليست لصالح محور الممانعة ولا تبشر بفرج قريب لها.
كما أن وضع نتنياهو وجيشه مهيأ لاستئناف العمليات ضد "حزب الله" لإتمام المهمة المعلنة وهي تجريده من سلاحه. والمرجح ألا يمانع ترامب وفريقه المتشدد من إعطاء نتنياهو المزيد من الوقت لتحقيق أهدافه ضد "حزب الله" في لبنان. وعليه، الخيار المثالي والواقعي لـ"حزب الله" هو الحد من الخسائر وتسليم سلاحه للجيش. المقاومة قد تكون أقوى وأكثر فعالية بلا سلاح وخارج المحاور.
التعليقات