في التطور الطبيعي للمجتمعات والوحدات الإدارية من الريف أو القرية إلى مراكز المدن والحواضر حقبة زمنية ترتبط بتطور تلك المجتمعات إدارياً وثقافياً وحضارياً، ولا يمكن تحديد فترة زمنية محددة لتلك الانتقالة؛ لأنها ترتبط أيضاً بديناميكية تلك الحركة وعواملها وظروفها التاريخية، ومِن ثمّ قد تطول أو تقصر، إلا أنها بالتأكيد لن تكون سهلة أو سريعة في كل الأحوال، إذا ما أخذت تطورها الطبيعي دونما تأثيرات سياسية ممنهجة، كما حصل وما يزال يحصل في بعض الدول والمجتمعات المختلفة قومياً أو دينياً أو مذهبياً، التي تعرضت لتغييرات ديموغرافية حادة راحت ضحيتها مجموعات إثنية أو دينية معينة.

إن ما حصل في كثير من مدننا في الشرق الأوسط عموماً هو عملية ترييف المدن والانتقال العشوائي غير المنضبط لسكان القرى إلى المدن، بعيداً عن مفهوم التحضر Urbanisation في الانتقال من الريف إلى المدينة، وما يترتب على ذلك من تغير في خصائص السكان الريفيين على مستوى العادات والتقاليد باتجاه المجتمع المدني، حيث ينطوي مفهوم التحضر على أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية ترافق عملية الانتقال أو تليها بعد حين، وهو، أي التحضر، نقيض عملية الترييف التي حولت المدن إلى مجتمعات ريفية قروية بكل تقاليدها وعاداتها وسلوكياتها، وهذا ما حصل في كثير من مدننا وحتى عواصمنا.

إذن نحن هنا أمام عمليتين متعارضتين تماماً:

عملية التحضر، وتقابلها من الجهة الأخرى عملية الترييف، أو بلغة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر Max Weber الذي يقول عنهما:

«إننا بصدد نموذجين متضادين من القيم والسلوكيات وأشكال التنظيم وأنماط الفعل والتأثير والتدبير...»، نموذج التحضير الذي يؤكد مركزية المدينة وهيمنتها، بكل ما يعنيه ذلك من نشر وانتشار للقيم الحضرية واكتساحها للمجال، ونموذج الترييف الذي تستحيل معه المدينة فضاء إلى مجرد حاضنة لإعادة تفريخ وإنتاج القيم والعلاقات القروية نفسها.

وهذا ما حصل فعلاً حيث برزت عملية ترييف المدن Transplantation منذ بدايات قيام العديد من دول الشرق الأوسط وظهور النفط وتأسيس بعض المعامل حول المدن، التي تسببت في هجرة عشوائية لمجاميع من فقراء الأرياف القريبة منها إلى أطرافها، طلباً للعمل أو هروباً من ضنك العيش وتخلف الحياة ووسائلها في تلك الأرياف، التي وبمرور الوقت تحولت إلى مجمعات سكنية ريفية على شكل أحزمة من الصفيح والصرائف حول كثير من المدن الكبيرة والمواني والمراكز الصناعية والتجارية والبترولية.

وقد انعكس ذلك على ثقافة وسلوكيات عموم المدن مع التراكم الزمني، ففقد الريفي هويته الأصلية لحساب هوية هجينة لا هي مدينية ولم تعد قروية كما كانت، وأدخلت تلك المجاميع الزاحفة إلى المدن ثقافات وسلوكيات ومنظومة من العادات والتقاليد البعيدة كل البعد عن طبيعة المدن، ما أدى إلى تشويهات كثير من المعاني والمفاهيم مع تقزم معظم المدن إلى قرى صغيرة في سلوكيات سكانها، حيث تقهقرت مظاهر التمدن إزاء الطوفان الريفي والقبلي، ونمو منظومة العلاقات القروية والبدوية على أسس الانتماء العشائري والمناطقي وبقية أشكال التنظيم القبلي.

وبين الزحف الريفي والقروي إلى المدن وعملية التحضر، دخل نوع آخر من الترييف السياسي الذي استخدم لإجراء تغيير ديموغرافي على أسس قومية أو مذهبية، حيث اعتمدت الأنظمة الحاكمة في البلدان المتعددة المكونات على آلية عسكرية وأمنية تمخضت عن نقل مئات الآلاف من القرويين المتطوعين في الجيش والأجهزة الأمنية الخاصة والميليشيات إلى تلك المدن وحولها، على شكل أحزمة أمنية أو تجمعات زراعية عسكرية من أماكنهم في القرى والأرياف إلى المدن ذات الأغلبية من مكونات قومية أو مذهبية مختلفة عن نهج أو انتماء النظام السياسي الشمولي، وذلك بتسهيلات كبيرة تشجعهم على السكن الدائم؛ كتوزيع الأراضي ومنحهم قروضاً لبناء البيوت، ناهيك بالأراضي الزراعية التي وزعت على آلاف الأسر المستقدمة من مناطق بعيدة عن تلك المدن المستهدفة في عملية التغيير الديموغرافي.

وقد رافق هذه العملية نقل كلي لموروثات الريف وسلوكياته وأنماط العيش فيه من عادات وتقاليد إلى تلك المدن والأحياء التي بقيت تعاني حتى هذا اليوم من الفارق الكبير بينها وبين المدينة الأصلية اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسلوكياً، ما أدى إلى ظهور إحساس بوجود طبقتين في كل مدينة من المدن من غير نظام الطبقات المعروف اجتماعياً واقتصادياً، وهما طبقة المدينيين (أي سكان المدينة الأصليين) وطبقة القرويين أو الريفيين الذين تم استقدامهم، مع ما يعني هذا الإحساس من توصيف لكل طبقة في السلوك والثقافة والأداء اليومي في الحياة، بل والتباعد النفسي والاجتماعي أحيانا بينهما.

في كل عمليات الترييف السياسي التي جرت كانت الضحايا من مواطني الدولة ذاتها، لكنها تختلف قومياً أو مذهبياً عن توجهات ونهج الأنظمة الحاكمة خاصة في كل من العراق وسوريا، حيث برزت مشاكل غاية في التعقيدات المجتمعية التي أدت إلى ظهور مد عنصري أو طائفي أثر بشكل بالغ على الأمن والسلم المجتمعي في معظم المدن التي تعرضت لتلك العمليات المبرمجة، وأصبحت من أخطر تحديات الأنظمة البديلة بعد التغيير الذي حصل في العراق عام 2003، ومؤخراً في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، إلا أن البلدين ما يزالان يعانيان من آثار تلك العمليات رغم تضمين حلها وإنصاف ضحاياها بمادة دستورية في دستور العراق، لكن التطبيق ما يزال معقداً، وتلك المدن تطفو فوق أرض ساخنة ومجتمع متشنج، وكذا الحال في سوريا، ومناطق الحزام بين سوريا وتركيا، وبين سوريا والعراق، التي تعرضت هي الأخرى إلى إجراء تغيير ديموغرافي.