أي جيمي كارتر سيذكره التاريخ، كارتر الذي ارتبط اسمه بالسلام بين مصر وإسرائيل؟ أم كارتر التراجع الأميركي أمام "الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران التي سجلت في عهده أول انتصار من سلسلة انتصارات على الولايات المتحدة؟ توجد قصة نجاح لكارتر وتوجد قصة فشل لرئيس أميركي عرف كيف يكرّس نفسه للسلام في هذا العالم طوال السنوات الـ44 التي تلت خروجه من البيت الأبيض. حقق الرئيس جيمي كارتر الذي أمضى ولاية واحدة من أربع سنوات (1977 و1978 و1979 و1980) في البيت الأبيض الكثير على صعيد الشرق الأوسط. لعب دوراً محورياً في التوصل إلى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وهي أول معاهدة سلام بين دولة عربيّة والدولة العبريّة. لم يكن الأمر متعلقاً بأي دولة عربيّة، بل بمصر كبرى الدول العربيّة التي قدمت أكبر عدد من الضحايا من أجل فلسطين وبذلت الرخيص والغالي من أجلها. لا يمكن تجاهل دور كارتر، الذي توفى عن مئة عام، في مجال تحقيق هذا الاختراق الذي كان بطله الحقيقي أنور السادات. عرف السادات كيف يوظّف حرب تشرين، أو حرب أكتوبر 1973، في مشروع سياسي صبّ في مصلحة مصر بدل متابعة المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية كما فعل حافظ الأسد شريكه في تلك الحرب. أكثر من ذلك، سعى السادات إلى مساعدة الفلسطينيين من دون نتيجة تذكر بعدما فضّل ياسر عرفات البقاء في أسر حافظ الأسد بسبب تمسكه بالبقاء عسكرياً في لبنان وفي زواريب بيروت ودهاليزها. حمى كارتر أنور السادات منذ اتخذ قراره بالذهاب إلى الكنسيت الإسرائيلية وإلقاء خطاب دعا فيه إلى السلام، "سلام الشجعان وليس سلام المغلوب على أمرهم". كان ذلك في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977. بين خطاب الرئيس المصري الراحل في الكنيست وتوقيع معاهدة السلام في آذار (مارس) 1979، تولى الرئيس الأميركي إنقاذ عملية السلام الهشة التي باشرها الرئيس المصري، وهي عملية كانت إسرائيل تبحث عن عذر للخروج منها وتفادي الانسحاب من سيناء. لا يمكن تجاهل أنّ إسرائيل كانت تعيش في ظلّ حكومة يمينية على رأسها مناحيم بيغن الذي لم يكن متحمّساً للسلام مع مصر ولا لتقديم أي تنازلات في الضفة الغربيّة لمصلحة الفلسطينيين. ساعد الموقف العربي، والفلسطيني تحديداً، من أنور السادات في وضع قضيّة الضفّة الغربيّة جانباً وتحرير مصر من التزاماتها حيال الفلسطينيين. أحرجت إسرائيل مصر في مرحلة ما بعد زيارة السادات للقدس. لكنّ كارتر استطاع إنقاذ عملية السلام في مؤتمر كامب ديفيد الذي انعقد في أيلول (سبتمبر) 1978. في كامب ديفيد فاوض الرئيس الأميركي باسم مصر بعدما أبلغه السادات أنّه يقبل بما يقبل به. كان كارتر منصفاً. كان يعرف أن مصر لا تستطيع توقيع معاهدة سلام من دون استعادة أراضيها المحتلة في حرب 1967. ساعده في ذلك وجود الوزيرين موشي دايان وعيزرا وايزمان إلى جانب بيغن. كان دايان ووايزمان يعرفان البعد التاريخي لتوقيع معاهدة سلام مصريّة - إسرائيليّة ومعنى ذلك إقليمياً. وقّعت معاهدة السلام المصريّة - الإسرائيلية بعد ستة أشهر من مؤتمر كامب ديفيد الذي انتهى باتفاقين وقعهما السادات وبيغن برعاية كارتر. يتعلق الأول بالعلاقات بين مصر وإسرائيل، وقد نفّذ بالفعل، والآخر بالحكم الذاتي للفلسطينيين وقد بقي حبراً على ورق. نجح جيمي كارتر مصرياً وشرق أوسطياً وفشل إيرانياً. لم يدرك في أي لحظة عمق التغيير الذي ستشهده إيران في العام 1979 والذي سيغيّر التوازن الإقليمي في المنطقة في اتجاه مزيد من الاضطرابات التي في أساسها ترويج الزعيم الإيراني آية الله الخميني، بعد قلبه نظام الشاه، لـ"تصدير الثورة"... بدءاً بالعراق ذي الأكثريّة الشيعيّة طبعاً. فشلت إدارة كارتر في استيعاب ما يجري في إيران والمغزى من إعلان قيام "الجمهوريّة الإسلاميّة" وفق دستور على قياس الخميني وفكره القائم على نظريّة "الولي الفقيه". لم يدرك أنّ رفع شعار العداء لأميركا وإسرائيل كان من مستلزمات النظام وعدّة الشغل لديه. جاء الامتحان الأول الذي رسب فيه كارتر عندما احتجز "الطلاب الثوريون" ديبلوماسيي السفارة الأميركيّة في طهران وموظفيها لأسباب واهية. استمر ذلك 444 يوماً. ظهرت طوال تلك الفترة علامات الضعف داخل إدارة كارتر الذي فشل في إنقاذ الرهائن بالوسائل العسكرية في البداية ثم السياسية لاحقاً. عانى الرئيس الأميركي وقتذاك من عقدة حرب فيتنام من جهة ومن التجاذبات داخل إدارته من جهة أخرى. كان في داخل الإدارة مستشار الأمن القومي زبيغنيو بريزنسكي الذي دعا إلى التعاطي بحزم مع إيران، فيما كان هناك من يرفض اللجوء إلى أي تهديدات خوفاً على حياة الرهائن. فشل جيمي كارتر في الحصول على ولاية رئاسيّة ثانية بسبب جهله بإيران التي زارها قبل سنة من سقوط الشاه وقال من طهران إنّّها "واحة استقرار" في المنطقة. سقط أمام رونالد ريغان الذي فاوض فريقه الإيرانيين سرّاً في باريس، كما تبيّن لاحقاً، من أجل عدم إطلاق رهائن السفارة قبل موعد الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة. لعبت "الجمهوريّة الإسلاميّة" أوراقها بشكل جيّد مع كلّ الإدارات الأميركية منذ نجحت في إخضاع كارتر... إلى اليوم الذي اصطدمت به بدونالد ترامب الذي فاجأها باغتيال قاسم سليماني، رجلها في إدارة حروب المنطقة. دفع كارتر ثمن جهله بإيران وبالتغيير الذي حصل فيها في العام 1979. تدفع إيران حالياً ثمن جهلها بالتغيير الذي حصل في أميركا، بما في ذلك التغيير الذي حصل في إسرائيل منذ يوم "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023...