مبارك الهزاع

الغُفران ليس ضعفاً، بل هو قوة تليق بأصحاب القلوب الكبيرة، أولئك الذين يُدركون أن حمل الأحقاد يُثقِل النفس، وأن تحرير القلب من ثقل الكراهية يُشبه إزاحة حجر عن نهرٍ جفَّ ماؤه. أن تغفر هو أن تمنح نفسك فرصة للتجدّد، وأن تُعلن أن الألم لن يظلّ حاكماً في مملكتك الداخلية.

الغفران ليس مجرد فضيلة بشرية، بل هو مبدأ إلهي كرّمه الله في كتابه العزيز. يقول الله تعالى:

﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (المائدة: 13) هنا يأمر الله بالعفو والصفح، ويُذكّر بأن المُحسنين هم أهل المحبة عنده. وكأنّ الغفران ليس مجرد تصرّف، بل هو عبادة تُقرّبك من الله، وعمل يُطهّر قلبك من كل ما يُثقله.

ومثلما غفر النبي يوسف لإخوته بعد أن ألقوه في الجبّ، قال لهم بكل سماحة:

﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ (يوسف: 92) فمن ذا الذي جُرِح مثل يوسف؟ ومع ذلك، سامح وترك الأمر لله، فصار الغفران تاجاً يُزيّن رأسه.

نغفر لأن الحياة قصيرة، ولأن القلب لا يتحمّل حملاً إضافياً من الأحقاد. نغفر لأن الله وعد بالمغفرة لمن غفر:

﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (النور: 22) فهل هناك أعظم من أن تربح مغفرة الله حين تُسامح من أساء إليك؟ الغفران لا يعني أنك تنسى الجرح أو تُلغي خطأ الآخر، بل يعني أنك تُقرّر ألا تدعه يسيطر عليك. أن تغفر هو أن تُحرّر قلبك دون أن تُفرّط بكرامتك.

أن تغفر هو أن تُخرج شوكة من جسدك، لأن الألم الحقيقي لا يكمن في الشوكة نفسها، بل في استمرار وجودها. الغفران يداوي الجرح، ويترك ندبة تُذكّرك بما حدث، دون أن تُعيق حركتك. قال تعالى:

﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (آل عمران: 134) فالغفران ليس لأجل الآخرين فقط، بل هو ارتقاءٌ بالنفس إلى منزلة المُحسنين الذين يُحبهم الله.

الغفران درس إلهي، وسُنّة الأنبياء، وطريق القلوب الطاهرة. من يُسامح لا يخسر شيئاً، بل يُكسب نفسه الطمأنينة، ويكسب رضا الله. وكما أن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب، فإننا مدعوون لنقتدي بهذا العطاء الرباني ونمنح قلوبنا راحة الغفران.

سامح ليس لأن من أخطأ يستحق العفو، بل لأنك تستحق السلام.