كمن يتلمس خطواته في غرفة مظلمة، تستمر الولايات المتحدة وأوروبا في الانفتاح على الإدارة الجديدة في سوريا بتأنٍ وحذرٍ بالغين. ويبعث هذا برسالة واضحة إلى الحكام الجدد مفادها أن رفع العقوبات بالكامل لا تزال دونه محاذير كثيرة وينتظر قيام الحكومة الشاملة وتقديم رؤية واضحة ومحددة المعالم لمستقبل سوريا. وعندما تترك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المنصرفة لإدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب مسألة طريقة التعامل مع العقوبات الأساسية التي فرضتها واشنطن على سوريا منذ 14 عاماً، وتكتفي بتخفيف عقوبات تتعلق جوهرياً بحياة السوريين العاديين على غرار السماح بتحويلات مالية من شأنها تأمين حاجاتهم من الكهرباء والماء، فإن ذلك يعني أن التراجع عن "قانون قيصر" الذي شل الاقتصاد السوري إبان حكم بشار الأسد، يفترض إجراءات أوسع من جانب دمشق، ليس فقط حيال الداخل وشكل النظام المقبل وحقوق الأقليات، وإنما التزامات تتعلق بالإقليم والعالم. مثلاً، ما مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين... هل سيقبل رئيس الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع ببقائهما أم سينهي الوجود الروسي في سوريا؟ والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان واضحاً في التعبير عن سعادته بتغيير النظام "من دون سذاجة"، وحدد الخطوط العريضة، مذكراً بـ"بالحلفاء الأكراد الأوفياء". ولعل الرئيس الفرنسي أول من تذكّر "كل مكونات المعارضة" للنظام السابق، التي رأى أنها يجب أن تشارك في العملية الانتقالية، في انتقاد لامس العلنية لتجاهل هذه المكونات في ما شهدته الإدارة الجديدة من تعيينات. وما يطالب به الغرب، سمعه وزير الخارجية السوري في الإدارة الجديدة أسعد الشيباني خلال جولته العربية... حكومة جامعة لا تقصي أحداً من أطياف المجتمع السوري. يبقى الآن على الشرع كيف سيوازن بين المطالب الغربية والعربية، وكيف سيهدئ الهواجس بأن النظام الجديد لن يذهب في اتجاه نظام إسلامي متشدد في قلب العالم العربي، وصولاً إلى محاولة فرض الحكم المركزي على الأكراد الذين يحرص الغرب على عدم التخلي عنهم والحفاظ على خصوصية معينة لهم ضمن سوريا الجديدة، على رغم أن تركيا تعارض ذلك معارضة قوية. كيف سيوفق الشرع بين الجانبين وهو يعلم أن تركيا هي الداعمة الرئيسية له وكانت رئته في إدلب وكذلك في دمشق؟ وفي بيئة استراتيجية شرق أوسطية متحولة منذ هجمات "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والرد بحروب إسرائيلية متواصلة، يواجه الشرع مهمة صعبة، وكان الجزء السهل هو انهيار النظام السابق، أما بناء نظام جديد، فذاك هو التحدي الأكبر الماثل أمام الحكام الجدد، تحت رقابة إقليمية ودولية صارمة تترصد كل قرار يصدر عن دمشق في هذه الأيام. وكلما تلاشت النشوة بزوال النظام السابق، سيحل محلها التفكير والتساؤلات عما ستكون عليه سوريا الجديدة. وهذا سر التمهل الغربي في رفع العقوبات عن سوريا دفعة واحدة، مع الحفاظ على التواصل مع القيادة السورية الجديدة. بالانفتاح الحذر والتأني في رفع العقوبات، تقول واشنطن وأوروبا والدول العربية للشرع، إن التبدل الذي طرأ عليه منذ وصوله إلى دمشق، ليس كافياً لعودة غربية وعربية بقوة إلى سوريا، وأن بلوغ هذه الغاية لا يزال يلزمه المزيد من الانفتاح على "المكونات السورية" الأخرى، حتى لا تغرق البلاد في آحادية أخرى، تكون باباً لنزاعات مستقبلية. يزيد هذا من العبء الملقى على الشرع في فترة وجيزة من توليه الحكم. ولذلك، استبق الضغوط بالإعلان أن الانتقال تلزمه 3 سنوات لكتابة الدستور و4 لإجراء انتخابات عامة. إنها عملية تبادلية بين من يتمهل في رفع العقوبات وبين من يتمهل في العملية الانتقالية.