محمد ناصر العطوان
لقد كنت من الجيل الذي تفتق وعيه على ثورة الفضائيات في التسعينات، ولقد كنت وجماعة من أصدقائي ضحايا الإستراتيجيات التسويقية التي مارستها الشركات علينا، وعندما كبرنا تعلمنا أن الإعلانات وقتها -وحتى اليوم- لا تبيع منتجات بل تبيعك أحلاماً وأوهاماً، فبدلاً من أن يقولوا لك: «اشتر هذه الصابونة من أجل نظافتك»، يقولون لك: «اشتر هذه الصابونة من أجل سعادتك!».
ثم تطورت هذه الإستراتيجيات حتى وصلنا لمرحلة أنه حتى «الكلور» وشوربة الدجاج وزيت الطبخ أصبحت لها رسائل وجودية في حياتنا، ورغم أن «الكلور» وظيفته تنظيف الملابس وليس تنظيف الروح إلا أنهم يخبروك «استخدم كلورنا... وحياتك تتخلص من الكآبة!» ولذلك التسويق الحديث قرر أن يغسل مخك وجيبك بدلاً من الغسالة.
لقد كان لنا صديق في المراهقة يعاني من أزمة ثقة في النفس، وكان كلما تأزم يذهب إلى مراكز التسوق الكبرى، يجد هناك إعلانات تبيع له «الثقة بالنفس» في علبة كريم للشعر، و«النجاح الاجتماعي» في زجاجة عطر، وإذا سأل عن السعر، يقول له البائع بابتسامة واثقة: «سيدي، أنت لا تشتري منتجاً، أنت تستثمر في ذاتك»!
الخطة الماكرة في إعلانات التسعينات وحتى الجديدة اليوم أنها تعتمد على «الثغرات النفسية» وحالات النقص في حياة العميل.
مثلاً:
- لو كنت وحيداً، اشتر هذا العطر وسوف يجذب لك 100 حبيب قبل أن تنتهي الزجاجة!
- إذا أردت أن تحب نفسك؟ اشتر شوكولاتة!
- هل تريد أن يموت الجيران من الحسد؟ اشتر التذكرة السحرية إلى نادي «أنا أفضل من جاري»!
ولذلك، من الطبيعي أن تغذي هذه الإعلانات النرجسية في النفوس البشرية، فنحن جميعاً أناس غير عاديين وجميعُنا «أبطال خارقون» ولكي نحافظ على هذه البطولة علينا أن نجدد جرعتنا من الاستهلاك كل يوم! والأهم نشر صورتنا مع المنتج على السوشيال ميديا... وننتظر النرجسية تزيد 50 % مع كل لايك!
في زمنٍ مضى، كان الناس يبحثون عن السعادة في الضحكة الصادقة وكوب الشاي مع الجيران. أما اليوم، فقد أصبحت السعادة منتجاً يُباع في علب أنيقة وتطبيقات ذكية، وصار الحب عطراً فاخراً يُرش على الروح المتعبة.
الخلاصة، أن من يدفع أكتر... هو الرابح، ففكرة الإعلانات التي كنا ضحاياها بتبسيط: «تذكر أن الدنيا مسابقة، وأنت يجب أن تتفوق على كل من حولك... حتى لو بالكلام الفارغ!»
«روح اشتري»، ادفع، تسلف، وارقص على جثة كرامتك... المهم تثبت أنك «الأجمل والأحسن والأغلى»!
وهكذا أصبحنا نعيش في سوق كبير، حيث تُباع المشاعر بالكيلو، والسعادة بالتقسيط، والحب بالبطاقات الائتمانية. أما القناعة، فهي السلعة الوحيدة التي لا تجد لها مكاناً على الرفوف، ربما لأنها السلعة الوحيدة التي لا تحتاج إلى تسويق... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.
التعليقات