علي عبيد الهاملي

«ستدرك في وقت متأخرٍ من الحياة أن معظم المعارك التي خضتها لم تكن سوى أحداث جانبية أشغلتك عن حياتك الحقيقية».

ينسب البعض هذه المقولة إلى الأديب الوزير والدبلوماسي السعودي الراحل غازي القصيبي، في حين ينسبها آخرون إلى الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، في حين لا يوجد مصدر أدبي رسمي أو كتاب موثوق يثبت أن هذه المقولة تعود لكاتب محدد. لكن السؤال الأهم هو: كيف تشغلنا الأحداث الجانبية عن الحياة الحقيقية؟

في زحمة التفاصيل الصغيرة، نجري بلا توقفٍ تجاه معارك لم تكن يوماً معاركنا الحقيقية. ننشغل بصغائر الأمور، نغرق في نقاشات عابرة وعقيمة، نستهلك أنفسنا في سباقاتٍ لا تفضي إلى شيء، ونكتشف في وقتٍ متأخرٍ أننا كنا نحارب طواحين هواء، بينما كانت الحياة الحقيقية تنتظرنا على الضفة الأخرى، فنحاول العبور إليها، ولكن غالباً ما نصل متأخرين، أو لا نصل أبداً.

ننشغل بجدالٍ عقيمٍ، بنقدٍ جارحٍ، بقلقٍ على تفاصيل لا تصنع مستقبلاً ولا تبني حلماً، نحمل فوق أكتافنا أعباء لم نخترها، نخوض معارك لم نردها، ونضيع أعواماً في البحث عن انتصاراتٍ زائفةٍ، فيما الهزيمة الحقيقية تكمن في أننا فقدنا الوقت، وفقدنا أنفسنا معه.

حين نلتفت إلى الخلف، ندرك أن ما حسبناه معاركَ مصيرية، لم يكن سوى سراب، أشياء جانبية أغوتنا ببريقها الخادع، شغلتنا عن الحياة التي تستحق أن تُعاش. الحياة الحقيقية ليست في التفاصيل التي تستهلكنا، بل في الحب الذي نحمله لمن حولنا، في الشغف الذي يضيء دربنا، وفي الأحلام التي تستحق منا أن نناضل من أجلها.

يقودنا الوهم نحو مساراتٍ تُبعدنا عن الحياة الحقيقية التي يجب أن نعيشها، ثم نستيقظ بعد أن يكون قطار العمر قد اقترب من محطته الأخيرة، وضاع الجزء الأكبر من حياتنا في معارك نكتشف متأخرين أنها تافهة وصغيرة، لم تكن تستحق الاهتمام الذي منحناها إياه عندما كان الوقت فسيحاً ومتاحاً، عندما كان الزمن كريماً معنا.

أي حكمةٍ تلك التي ندعي أننا نتحلى بها ونحن نحارب طواحين الهواء؟ وأي عقلٍ ذاك الذي ندعي أننا نملكه ونحن نخوض معارك جانبيةٍ لا النصر فيها يضيف إلينا ولا الخسارة تضر بنا؟ وأي بحيرةٍ هادئةٍ تلك التي نظن أن سفينتنا سترسو على ضفافها ونحن نبحر محملين بالصخب الذي يملأ نفوسنا، ويعصف بعقولنا؟

تُرى، هل ندرك أن معظم المعارك التي خضناها لم تكن سوى أحداثٍ جانبيةٍ أشغلتنا عن حياتنا الحقيقية، ومتى ندرك ذلك؟

ربما نجد الإجابة في قصيدة القصيبي الوداعية «حديقة الغروب» التي قالها وهو على فراش المرض في الخامسة والستين من عمره، قبل رحيله بخمس سنوات، وربما تظل الإجابة موغلة في الغموض، تاركة الأسئلة مفتوحة على كل الاحتمالات التي يمكن أن تفكك ألغاز الحياة.

السأم من تكاليف الحياة واحد من سمات الشعراء. وجدناه عند الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، قبل القصيبي، عندما بلغ الثمانين من عمره، فهل هم الشعراء وحدهم الذين يسأمون تكاليف الحياة، أم هم وحدهم القادرون على التعبير عن مشاعرهم نيابة عن بقية البشر؟

في عام 1845م، قرر الفيلسوف الكاتب والشاعر الأمريكي «هنري ديفيد ثورو» العيش بمفرده لمدة عامين وشهرين في كوخ صغير بجوار بحيرة «والدن» في ماساتشوستس الأمريكية، بعيداً عن تعقيدات الحياة الحديثة. كان هدف «ثورو» أن يختبر الحياة البسيطة ويكتشف المعنى الحقيقي للوجود. دوّن «ثورو» هذه التجربة في كتابه «Walden; or, Life in the Woods» فتحدث عن أهمية العيش ببساطة، والاكتفاء الذاتي، وتأمل الطبيعة. خلص «ثورو» إلى أن ما يقاس بالمال ليس هو الثروة الحقيقية. ثروتنا الحقيقية هي الوقت والحرية.

ربما تبدو مثل هذه الأفكار للبعض موغلة في الطوباوية، تتخيل مجتمعاً مثالياً خالياً من المشكلات، يسود فيه العدل والمساواة والسلام والازدهار التام، وهو ما يقول الواقع إنه حلم مستحيل التحقق في عالمنا المليء بالأنانية، والصراعات الفردية والجماعية، والحروب والقتل والدمار، وفي ظل شريعة الغاب التي يأكل فيها القوي الضعيف، حيث تغيب العدالة ويكون البقاء فيها للأقوى وليس الأنقى.