محمد ناصر العطوان
في غرفة حيث الأضواء خافتة كفتاة نهارية تخجل من مواجهة ظلام الليل، كانت كتبُ الحديث ورواتها تُنصت لصوتٍ لن يتردّدَ بعد اليوم.
كلّما مرّت رياح الفجر على مئذنة المسجد الذي كان يُدرس فيه، تعثر الأذانُ في حلق المؤذّن:
«أين الذي كان يُصلح سجّادتنا الباليةَ بنقاشهِ عن الإيمان؟».
كلّما فُتحت صفحةٌ من «سنن النسائي»، توقّفت الكلمات عند هامش كُتب عليه بخطّ يزداد خفوتاً:
«هنا مرَّ الشيخُ ذات ليلة مُثقلاً بأسئلة تلاميذه في الفقه والسياسة والعشق... وهنا ترك الجواب معلّقاً كشمعة لا تنطفئ».
في زوايا المكتبات القديمة وفي دروس ما بين المغرب والعشاء، يجلسُ رجالٌ بوجوه شاحبة يحاولون ترديدَ شرحهِ لـ«نيل الأوطار»، لكن أصواتهم تنكسر كسَرير طبيٍّ في مستشفى من مستشفيات غزة.
يا تُرى، من سيروي للنجوم قصّة ذلك الرجل الذي كان يصعدُ المنبر وهو يحمل معه كل الذين رووا حديث رسول الله، وكأنّه يحملُ جبالاً من وَرق؟ من سيُذكّر المطر أن يقرأَ «رسالة ابن أبي زيد» قبل أن يسقطَ على الأرض العطشى؟
يقولون: «رحلَ حارسُ الأسفار»... رحل أعلم أهل الأرض بالحديث ورواته.
لكنّ طلبة العلم تشهدُ أنَّ أقدامَ العابرين توقّفتْ كثيراً عند باب غرفته، تنتظر أن يُخرجَ لهم من جيوب عباءته فتوى تُحيي مواتَ القلوب.
الآن، يُغمضون المصاحفَ ويضعونها على الأرفف، ويُطفئون المصابيح واحداً بعد آخر في المسجد.
بينما ظلُّه لا يزالُ يُدوّي في الممرّات:
«لا تبكوا على الشيخ أبي اسحاق الحويني... ابكوا على علم صار غريباً في زمن الأجوبة الجاهزة». وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله.. أبتر.
دعاء:
اللهم ارحم الشيخ أبي إسحاق، ووسع له في قبره، ويسر له حسابه وأمره، وارزقه صحبة الصالحين، وارزقنا صحبتهم... اللهم آمين.
التعليقات