تطرح استراتيجية الأمن الوطني الأميركية لعام 2025 تحوّلاً جذرياً في طريقة مقاربة واشنطن للشرق الأوسط ودوره في معادلة الأمن العالمي، بما يتجاوز أي مقاربة سابقة منذ نهاية الحرب الباردة. فبعد ما يقارب نصف قرن من الانغماس الأميركي في صراعات المنطقة، تقدّم الوثيقة رؤية جديدة، مفادها أنّ الشرق الأوسط لم يعد ذلك المسرح المُلتهب الذي يُلزم الولايات المتحدة بالبقاء فيه، بل منطقة تتراجع فيها دوافع التدخل العسكري وتتعاظم فيها فرص الشراكات الاقتصادية والاستثمارات المتقدمة.
والسؤال: كيف نقرأ هذا التحول اليوم؟ بالتأكيد أنه لا يعكس فقط إعادة ترتيب أولويات واشنطن عقب التوسع في إنتاج الطاقة والانتقال إلى التركيز على التنافس مع القوى الكبرى، بل يعكس أيضاً إدراكاً أميركياً بأن القوى الإقليمية، وفي مقدمتها السعودية، باتت أكثر قدرة على إدارة التوازنات والمحافظة على الاستقرار من دون الحاجة إلى إشراف أميركي مباشر أو دائم.
وللمرة الأولى منذ عقود، تبدو مصالح واشنطن أقلَ ارتباطاً بإدارة الأزمات الآنية والتفاصيل في المنطقة، وأكثر رغبة في بناء علاقات تحالفية قائمة على تقاسم الأعباء وترتيبات اقتصادية واستثمارية مستدامة، أو على الأقل طويلة الأمد.
بحسب نص الاستراتيجية المنشور مؤخراً، فإن جزءاً من العوامل التي دفعت الولايات المتحدة، تاريخياً، إلى اعتبار الشرق الأوسط منطقة لا يمكن الانسحاب منها، قد تغيّر بصورة جوهرية. فاعتماد العالم على نفط الشرق الأوسط تراجع بفعل تنويع مصادر الطاقة عالمياً، كما أصبحت الولايات المتحدة نفسها مُصدّراً للطاقة، بما يقلّص أحد أهم دوافع الوجود العسكري المكثف وفق منظورها الاستراتيجي.
من جهة أخرى، لم يعد التنافس الدولي ذا طبيعة قطبية صفرية كما كان في الحرب الباردة، بل تحوّل إلى تدافع بين قوى كبرى تختلف أدوارها وحدود تأثيرها، في حين تحتفظ واشنطن بقدرة تفوق نوعية وبمسافة تجعلها في موقع «الأكثر جاذبية»، بحسب تعبير الوثيقة. وما دامت البيئة الاستراتيجية العالمية تدفع بالولايات المتحدة نحو آسيا وتجاهل أوروبا الشرقية، فالأكيد أن الشرق الأوسط لن يصبح منطقة بلا قيمة، لكنه وفق المقاربة الأميركية الجديدة أقل إلحاحاً على مستوى التدخل، وأكثر فرصة لشراكات اقتصادية.
الملف الإيراني كان حاضراً في الوثيقة بوصفه نموذجاً للتحول، فليست طهران التهديد الإقليمي الأكبر كما كان الخطاب التقليدي؛ إذ تؤكد الاستراتيجية أنّ إيران تم إضعافها وتهشيمها بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لكن عملية «مطرقة منتصف الليل» الأميركية في يونيو (حزيران) 2025 كانت لحظة فاصلة في تراجع قدرات البرنامج النووي؛ لذلك فطهران يعاد توصيفها وفق هذه المقاربة كقوة إقليمية تستدعي الاحتواء، وكعامل خطر قابل للتحييد، أو بعبارة أخرى من الردع إلى الاحتواء النسبي، وهو ما سيجعل فرص السعودية الدولة الصاعدة والفاعل الأهم في الشرق الأوسط أن تستفيد من الفراغ النسبي، باعتبارها فرصة نادرة ومهمة لإعادة ترتيب التوازنات في المنطقة.
وكما هو متوقع حضر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في المقاربة الجديدة لواشنطن، لكن من دون تصور لحل نهائي، وإنما للتأكيد على مرحلة سلام طويلة يتم الالتزام فيها بعدم إطلاق النار، وهذه أيضاً فرصة ثانية لدول الاعتدال، وفي مقدمتها السعودية، بما يمتلكونه من ثقل سياسي وتفاوضي للعب دور في أي مسارات تسوية مستقبلية، في ظل إشارات واضحة على تفضيل أميركا لدور الإشراف وضبط الإيقاع وترك التفاصيل للاعبين الأساسيين بسبب التعقيدات البنيوية لهذا الملف.
سوريا الجديدة على الرغم من توصيفها بـ«مصدر قلق محتمل»، لكنها تجاوزت مرحلة التهديد، بل على العكس هناك رغبة كبيرة عكسها التقرير لإمكانية وضرورة استقرارها من خلال دعم مشترك، وصولاً لدمجها في التوازنات الإقليمية.
الأهم في الوثيقة من وجهة نظري هو التخلي الأميركي الواضح عن فرض ملفات حساسة قيمية أو سياسية، من استغلال شماعة حقوق الإنسان أو استنبات الديمقراطية الشكلانية، بل تعترف صراحة بأن هذه المقاربة كانت خاطئة، وتؤكد في الوقت ذاته أنّ نجاح العلاقات مع دول الشرق الأوسط يقوم على «قبول المنطقة وقادتها كما هم، والعمل معهم ضمن إطار المصالح المشتركة».
هذا الاعتراف وما سيتلوه من نهج فرصة مهمة جداً لإعادة موضعة الشراكة بناء على استحقاقات مبنية على «الاستقرار، والتنمية، والتحولات الاقتصادية»، خصوصاً مع إدراك واشنطن وإشادتها بالتجارب الخليجية والعربية المستقرة، والتي صبّت كفاءتها على محاربة التطرف والإرهاب.
أخيراً، تحدثت الوثيقة عن توجهات واشنطن الجديدة صوب الاستثمار في التقنية والذكاء الاصطناعي، وهو أيضاً ما يعزز الفرصة لدول المنطقة، وللسعودية بشكل خاص بحكم مشروعها الوطني الرائد المتمثل في «رؤية 2030» في مساره الاقتصادي، والذي عبّر عنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان منذ سنوات بتحويل المملكة إلى إحدى أهم مناطق الاستثمار المتقدمة في مجالات الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي والتقنيات الدفاعية وسلاسل الإمداد العالمية، وهو ما يعني أن تكون الرياض العاصمة المتجددة بشكل مذهل مركزاً محورياً في الإقليم للمشاريع المشتركة التي تبحث عنها واشنطن، كما هو حال الدول الكبرى.
الأكيد أن الوثيقة تعطينا ملامح المستقبل القريب من وجهة نظر الأمن القومي الأميركي «إعادة الإقليم للإقليم»، وتحول الشرق الأوسط إلى منطقة توازنات متعددة المراكز تقوم على إعادة بناء العلاقات البينية، وتطوير التحالفات الاقتصادية والتكنولوجية. وهو ما يجعل لحظة الازدهار الراهنة للسعودية فرصة تاريخية لاستمرار صعود دورها وموقعها بوصفها بوصلة الاستقرار لمنطقة سئمت الفوضى.
















التعليقات