حمد الحمد

لا أذكر حتى فترة السبعينات وكنت طالباً في المرحلة الثانوية، أننا قد سمعنا بمصطلح (مدرس خصوصي)، لهذا كنا نعتمد على أنفسنا في الدراسة، وقد نتعثر ونسقط، لكن نعود أقوى وأقوى، لأن الرسوب غالباً ما يكون أكبر درساً للإنسان، أذكر في المرحلة المتوسطة كان لدينا في المدرسة مدرس مرعب اسمه (كامل)، حيث كان أفضل هواية له، هي الضرب على ظهر اليد بالعصا في يوم بارد، وكان يدرّسنا مادة الدين، وكنا نعيش في وقت صعب جداً عندما يحين درسه، خصوصاً إذا قال (سمّع يا ولد)، بمعنى تسميع سورة قصيرة أو حديث، هنا الكارثة كطفل صغير أكون في مأزق، حيث أعرف أنني إن سمّعتُ وأخطأتُ سأضرب لا محالة وأبكي أمام التلاميذ، وهذا محرج جداً، لهذا خشية أن أرتبك عند التسميع أضطر أن أقول (لم أحفظ)، هنا أسلمُ من البكاء والتلعثم والإحراج.

بالسابق، كان نظام الكتاتيب بمعنى تعليم غير نظامي، مثلاً الملا هو المعلّم، وكان التسميع والحفظ الجزء الأهم في التعليم، لهذا عندما انتقلنا إلى التعليم النظامي من مدرسة المباركية إلى يومنا هذا، ما زال التسميع والحفظ هو الأهم، وليس الفهم بمعنى لم نترك أسلوب الكتاتيب.

والعائلات حالياً تعاني ليس في تدريس الأبناء وجلب مدرس خصوصي ودفع مبالغ ومبالغ تستنفد ميزانية الأسرة، إنما انتقلت إلى أمر جديد، وهو للمرة الأولى أسمع بمهنة (محفظ خصوص)، وهو إنسان متخصّص أو متخصصة يأتي للمنازل لتحفيظ الأطفال السور أو الأحاديث أو القصائد... هنا أمر جلل حيث أصبح الحفظ جزءاً من التعليم، رغم أن الفهم أهم من الحفظ دون فهم، لأن لا معنى للحفظ من دون الفهم.

أنا درست حتى السبعينات في المراحل الثانوية ولا أذكر في يوم أن طلب المدرس مني أن أقف أمام السبورة وأُلقي درساً (برزينتيشن)، إنما كنا أجساداً صامتة، دورنا هو أن نسمع، أو حتى ألا نتحاور في موضوع ما، وكان في صفنا طالب (نزق ) كثيراً ما يسأل مدرس التاريخ أسئلة خارج المنهج، وكان رد المدرس بما معناه (يا ابني اسمع واسكت).

ابنتي، حفظها الله، أبلغتني قبل تخرجها بأنها ستقدم (برزينتيشن) في جامعة الكويت مع زميلة لها، وهنا فرحت وحضرت، حيث هذا أمر لم نعهده في زمننا، وابني، حفظه الله، أبلغني أنه في أول يوم دراسي في جامعة أميركية بالخارج، أنه كان في موقف محرج جداً عندما طلب منه الدكتور أن يقف ويلقي (برزينتيشن) بمعنى يحاضر عن الموضوع الفلاني، كان موقفاً محرجاً حيث لم يعتد على ذلك من قبل في مدارسنا، وأخبرني أن التعليم هناك يربط بالحياة، مثلاً الدكتور يقول لك (اذهب للسينما وشاهد فيلماً عن حرب فيتنام وحاضر عنه)، أو تكون المفاجأة أن يطلب الدكتور أن نكتب قصيدة بالإنكليزي رغم أننا ندرس التمويل، وكان القصد أن يكتشف مواهب مخفية لا نعلم عنها.

لا أعرف لماذا كان الحفظ والتسميع جزءاً من تعليمنا وأصبح له تكلفة، والنتيجة لا حفظنا ما حفظنا... ولا فهمنا ما فهمنا، وديننا حسب علمي لم يأمرنا بالتوسع بالحفظ كما هو متداول حالياً، حيث يقول الشيخ عثمان الخميس، في إحدى جلساته التالي: (أما السورة التي بعد الفاتحة فهي سُنّة إن لم تقرأها فليس عليك إثم)، وفي موقع الشيخ بن باز، ذكر: (أما قراءة سورة بعد الفاتحة فهو مستحب).

لكن مع هذا حفظ القرآن وسوره له فائدة كبرى وأجر عظيم، لكن مقدرة الناس على الحفظ تتفاوت، فإنسان عندما يسمع قصيدة للمرة الأولى يحفظها، وآخر حتى أبسط الأرقام مثلا رقمه المدني لا يحفظه، وفي أخبار جهينة، البرنامج الإذاعي ذكر أن الأميركي المدعو بن بيك، لا هو عالم ولا مخترع، شهرته أنه إذا قرأ صفحة يعيدها بعد ثوانٍ كاملة لفظياً ويستطيع الترنم بأغنية سمعها قبل 40 سنة، لهذا شهرته أن يحفظ فقط ولم يقدم شيئاً آخر للبشرية... بمعنى الحفظ قدرات ليس لدى الجميع.

وأخيراً لو كان الأمر بيدي لألغيت الحفظ والتسميع وجعلت الفهم هو الأهم.

لو... ثم... لو... وننسى مصطلح محفظ خصوصي الجديد!