من الإلكترونيات الدقيقة إلى خطوط إنتاج المسيّرات، إلى بيانات الأقمار الاصطناعية والمناورات الدبلوماسية القاسية، يتصاعد الصراع بين بكين وواشنطن في حرب هجينة تمتد من المحيط الهادئ إلى قلب أوروبا. لكن الحرب الروسية - الأوكرانية تبقى الساحة الأكثر نشاطاً لهذه المواجهة، بما تشكّله من عقدة جذب وشد بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا.
في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وفي زيارة غير معلنة، هبطت طائرة عسكرية أميركية في كييف تقلّ دانيال دريسكول، وزير الجيش الأميركي، حاملاً إلى فولوديمير زيلينسكي مبادرة سلام مدعومة من الرئيس دونالد ترمب. وبعد يومين فقط، حطّت في موسكو طائرة أخرى تقلّ الجنرال جانغ يو شيا، أحد أقوى القادة العسكريين في بكين. بين كييف وموسكو كانت رسائل واشنطن وبكين تتقاطع فوق خنادق أوكرانيا.
بحسب بيان مقتضب لوزارة الدفاع الصينية، وبعد نقل تحيات الرئيس الصيني شي جينبينغ، ناقش الجانبان الصيني والروسي «الوضع الدولي وتعميق التعاون الاستراتيجي»، مع تأكيد «ثبات التعاون بين الصين وروسيا». ومع ضغط ترمب من أجل هدنة في أوكرانيا، رأت بكين أن من الضروري تعزيز موقع موسكو في مواجهة الضغوط الأميركية والأوروبية، من دون الذهاب إلى استفزاز مباشر لواشنطن أو استعداء العواصم الأوروبية علناً.
تسعى روسيا إلى التفاوض من موقع آمن قبل أن تصوغ ردّها النهائي على المقترحات الأميركية، ولذلك احتاجت إلى معرفة حدود الموقف الصيني بدقة. جاءت زيارة جانغ يو شيا لتمنح الكرملين هذا الاطمئنان، وتكرّس من جديد التحالف العسكري - السياسي بين الطرفين، وتقسيم العمل بين قوة نووية منهكة وقوة اقتصادية صاعدة.
تشير تقارير غربية إلى أن نحو 90 في المائة من المكوّنات الإلكترونية الدقيقة المستخدمة في أحدث المنظومات البرية والجوية الروسية مصدرها الصين، وأن موسكو استوردت ما يقارب 900 مليون دولار من هذه المكوّنات خلال الفترة الأخيرة، إضافة إلى كون الصين مسؤولة عن نحو 70 في المائة من مستوردات روسيا من المعدات الميكانيكية. وفيما تسعى موسكو إلى إنتاج نحو مليوني مسيّرة بحلول عام 2025، تعمل شركات روسية وصينية على تطوير تقنيات الاستشعار والاتصال، بالتوازي مع تعاون متزايد في مجال الأقمار الاصطناعية وتبادل البيانات الاستخباراتية.
تعرف بكين وموسكو أن العقوبات الغربية لن تُرفع بقرار سحري ولا بين ليلة وضحاها، لذلك تتعمّق حاجتهما المتبادلة موضوعياً. ويمكن القول بثقة إن مستوى الترابط الحالي يجعل من الصعب على أيٍّ منهما الانعطاف بعيداً عن الآخر، مهما اشتدّ الضغط الأميركي والأوروبي.
من بحر الصين الجنوبي إلى شينغيانغ، ومن أوكرانيا إلى المسارات البحرية عبر القطب الشمالي، يتشكّل سباق صيني - أميركي للاستفادة من تداعيات الحرب الأوكرانية وإعادة رسم موازين القوة العالمية. وبينما تغرق مبادرات السلام الأميركية في متاهة المقترحات والمقترحات المضادة، ترى بكين وموسكو في هذا الإرباك فرصة إضافية لتثبيت شراكتهما وإطالة أمد لحظة التفاوض من موقع قوة. لكن هذا السباق، وإن بدا بعيداً عن مياديننا، يعيد رسم خرائط القوة التي ستنعكس حتماً على منطقتنا والعالم.















التعليقات