جمال الكشكي

جرت تحت الجسر مياه كثيرة، ثمة مراجعات ضرورية لعودة أمريكا إلى الفكرة التي نشأت عليها، واتفق عليها الآباء المؤسسون. على مدى ثمانين عاماً كانت أمريكا تقود النظام الدولي، تارة بمشاركة الاتحاد السوفييتي السابق، وتارة بمفردها بعد سقوط جدار برلين عام 1989، وانهيار الكتلة الشرقية نفسها بالكامل عام 1991. الرئيس السابع والأربعون، دونالد ترامب، قرر زيارة جديدة إلى هؤلاء الآباء المؤسسين، توقف أمام الرئيس الخامس جيمس مونرو، الذي كان قد صاغ مبدأ حاكماً عام 1823، يتعلق بأن أمريكا بشقيها الشمالي والجنوبي كتلة واحدة تعود إلى الأمريكيين وحدهم، وتمنع أوروبا من التدخل في شؤونهم، أي تحرير أمريكا شمالاً وجنوباً من الانخراط في الحروب الأوروبية، أو الشؤون الداخلية لكلتا القوتين، وهو مبدأ استقلالي حاكم سمح للسياسة الأمريكية بأن تتدخل في شؤون القارة اللاتينية.

جاء ترامب من زيارة جيمس مونرو محملاً بالمبدأ الشهير، وأضاف إليه عنصرين مهمين، وهما الحرب على المخدرات والهجرة غير الشرعية، والتأكيد على هوية أمريكا أولاً، وتدعيم ذلك بثقافة وتعليم وطنيين، والامتناع عن تغيير العالم بالقوة الليبرالية التي استلهمتها أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.

هندسة جديدة واستراتيجية مغايرة بتوقيع دونالد ترامب، تحرك جريء وغير تقليدي، وثيقة الأمن القومي الأمريكي لعام 2025 هي إعلان صريح عن نهاية النظام العالمي الليبرالي، إنها تحول الولايات المتحدة من قائد للنظام الدولي إلى قوة قومية تضع الداخل فوق كل اعتبار، وتعيد صياغة التحالفات، وتختار ساحات محدودة للصراع والمنافسة، قواعد اللعبة تغيرت وأن ما بعد 2025 ليس كما قبله.

وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2025 تضمنت محاور عدة، تستحق القراءة بعناية، أول هذه المحاور: أولاً: تفكيك النظام العالمي خطوة بخطوة، من خلال تحول فكري واستراتيجي كامل على النظام العالمي الذي قادته أمريكا منذ 1945.. ففي 33 صفحة تعيد الإدارة تعريف دور الولايات المتحدة، وتضع رؤية جديدة تتجاوز الليبرالية الدولية التي شكلت أساس النفوذ الأمريكي طوال عقود.

ثانياً: التحولات الثمانية الكبرى التي تمثلت في نهاية عصر الهجرة وأمن الحدود، إذ إن الوثيقة ترفع أمن الحدود إلى قلب مفهوم الأمن القومي، وتربط الهجرة بالمفهوم القومي والهوية الثقافية، مؤكدة أن حماية السيادة الحدودية تبرر كل الإجراءات بما فيها القوة العسكرية، هذا التحول يجعل الداخل الأمريكي نقطة الارتكاز لكل سياسة خارجية لاحقة.

ثالثاً: مبدأ مونرو المتكرر، فالوثيقة تؤكد أن النصف الغربي للعالم «أمريكا اللاتينية والكاريبي» هو الأولوية الجيوسياسية القصوى، فوق أوروبا والشرق الأوسط، إعادة نشر القوات، مكافحة النفوذ الصيني والروسي، والتعامل مع الهجرة والمخدرات، كلها عناصر تعيد إحياء مبدأ مونرو بصيغة القرن الحادي والعشرين.

رابعاً: تفكيك العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، إذ إن الوثيقة تصف أوروبا بـ«الضعف والانهيار الحضاري»، وتربط أي ضمانات أمنية بإنفاق دفاعي يصل إلى 5% من الناتج القومي، مع استعداد لمساندة القوى السياسية المعارضة للاتجاهات السائدة في العواصم الأوروبية.

خامساً: الشرق الأوسط، إدارة مخاطر لا سياسة كبرى، فالوثيقة تخفض مكانة الشرق الأوسط إلى منطقة تدار من بعيد، مع تقليص الوجود العسكري والتركيز على ثلاثة ملفات فقط: منع الهيمنة الإيرانية، أمن إسرائيل، وضمان تدفق الطاقة.

سادساً: الصين حرب اقتصادية وردع محدود، فالوثيقة تعيد تعريف العلاقة مع الصين من مواجهة أيديولوجية شاملة إلى منافسة اقتصادية تكنولوجية. سابعاً: الأمن الاقتصادي أساس القوة القومية، فترى الوثيقة أن القوة العسكرية لا يمكن أن تقوم على اقتصاد مترهل، إنما على الرسوم الجمركية، وإعادة توطين المصانع، وتنظيم التجارة، كلها تتحول إلى أدوات أمن قومي. ثامناً: نهاية دور أمريكا كحامل راية النظام العالمي، فالوثيقة تشير إلى أن الولايات المتحدة، ستتخلى عن دور قائد حلف «الأطلسي» الذي كان يحمل النظام الدولي، فقد بات الحلفاء مطالبين بتمويل الدفاع عن أنفسهم بالكامل.

تاسعاً: «أمريكا أولاً» كإطار استراتيجي شامل، والعبارة هنا تتحول من شعار انتخابي إلى عقيدة تقود السياسة الخارجية. أخيراً نحن أمام وثيقة 2025، غيرت المفاهيم التقليدية للسياسة الأمريكية، وأعلنت عن تحول عميق ستكون له تداعياته على العالم برمته.