كل السيناريوهات التي تنتظره قاسية... الطيران وسط سماء معتمة يحتاج إلى طيارين من طراز الوطنية... كل النوافذ مفتوحة للعواصف، والأعاصير... ما يزيد على 55 مليون راكب لا يعرفون موعد وصول الرحلة المملوءة بالمطبات. ولا يعرفون النجاة، أو القفز إلا في فراغ غير معلوم.

السودان في حالة سفر خطيرة. أقلع يوم الخامس عشر من أبريل (نيسان) عام 2023 من مطار الدولة، تتجاذبه رياح سياسية، وصراعات اقتصادية، وتهديدات وجودية. كل شيء بات في مهب الريح، الملاحون الدوليون يتحكمون في خط سير الرحلة، بينما الركاب أنفسهم رهينة صراع قديم يتجدد، يفتقد إلى إدارة حكيمة تنقذ مستقبل البلاد من التلاشي، أو من التقسيم، أو من قبضة جماعات، وتنظيمات مسلحة، جاهزة للانقضاض.

الطَرْق أسفل جدران الوجود للدولة صار بأيادٍ قارية متفرقة. سباق نفوذ على الضرب في مقتل، وبناء سدود تحجز الحق في الحياة، وأخرى تتسلل للهيمنة على أمن وملاحة البحر الأحمر، والتحكم في 12 في المائة من التجارة العالمية، وتحويل ممراته إلى (كانتونات)، وقواعد تتقاسمها قوى دولية تصارع التاريخ ثأراً من الجغرافيا.

كم هو قاسٍ أن يتحول السودان إلى أرض الخوف، وكان يجب أن يكون مزرعة العالم العربي، بدرجة تفوق مصطلح الصين مصنع العالم، كيف يصبح ضحية موارده الطبيعية من الذهب، والماس، والحديد، والمنغنيز، والنفط، وقبل كل ذلك فهو موطن الزراعة. شيء مؤلم أن تنظر إلى خريطة السودان فتجده رهينة صراعات داخلية كارثية، وفي الوقت نفسه هو محاصر من دول هي الأخرى أشد إيلاماً، وكارثية، تلفه من الشمال الغربي ليبيا الحائرة بين الفوضى والتقسيم، ومن الغرب تشاد التي يعصف بها الفقر، وفي الجنوب أفريقيا الوسطى التي تعيش صراعات قبلية وعرقية، وجنوب السودان التي تقيم على خرائط هشة، وفي الجنوب الشرقي إثيوبيا التي تحترف صناعة التأزيم، عبر مخططات بعيدة المدى، وهو ما تجسد جلياً في بناء سد النهضة ضد مصالح دول المصب، والمرور، مصر، والسودان، وإريتريا التي تتسابق عليها قوى دولية من أجل الفوز بشرفة على ساحل البحر الأحمر.

السودان يحترق، والنار بدأت تصل إلى جيرانه. والوقت ينفد. تحت نيران الحرب، تتقاتل القوى الأجنبية بأذرع محلية، السودان أصبح ساحة لتصفية حسابات إقليمية، ودولية، والشعب السوداني هو الوقود.

في الخلفية تقف قوى أخرى سياسية، ومدنية، وتقليدية، وأخرى مسلحة في انتظار لحظة الانهيار للانقضاض، والمشاركة في قسمة الخرائط باعتبارها فواعل مباشرة، أو وكلاء لقوى دولية.

الوقت ليس في صالح استقرار السودان، فكلما طال أمد الحرب، تراجعت فرص سيناريو الإنقاذ، وإيقاف الحرب، والتقاط الأنفاس، وربما يكون الاحتمال المتاح سيناريو البقاء في مرحلة الهشاشة العميقة، أو الانزلاق نحو سيناريو الانهيار الكامل للدولة، وفي هذا السيناريو لا أحد يمكنه قراءة الفواتير الباهظة للكارثة، والتي تتمثل في خروج السودان من معادلة الدولة الواحدة، ويفتقد لمقومات المعيار الجيوسياسي، ويصبح بمثابة المفتاح الأفريقي الذي كُسر، وتتراجع قدرته وأدواره باعتبار أنه شريك رئيس في التفاوض مع الجانب الإثيوبي حول تداعيات سد النهضة، والأخطار المستقبلية التي تهدد الأمن المائي لمصر، والسودان، فضلاً عن أن الوصول إلى سيناريو الانهيار سيقوض كل عناصر أمن وملاحة البحر الأحمر، بل سيتحول ساحله الغربي إلى فوضى تتقاسمها بعض القوى الدولية، والميليشيات، والتنظيمات الإرهابية، وهنا يمكن أن يتشكل، استراتيجياً، جزء رئيس من النظام العالمي الجديد على هذه المساحة من خرائط العالم، ويصبح خلية خطرة جداً، فعلى الصعيد الأمني عندما ينهار السودان، فقطعاً ستتحول هذه المساحة إلى ملاذ للإرهاب العالمي («داعش»، «القاعدة»، «بوكو حرام»)، وهذا له انعكاساته، وتهديداته على أوروبا، والعالم.

وعلى الصعيد الاقتصادي عندما يتعطل البحر الأحمر، يعني ارتفاعاً في تكاليف الشحن العالمية، وتضخماً يدفعه المستهلك عالمياً.

أما على الصعيد الإنساني، فسوف نواجه أكبر أزمة نزوح في العالم، مما يخلق حالة من عدم الاستقرار الإقليمي.

إن السودان، بحكم قدره الجغرافي، ومسؤوليته التاريخية، ليس دولة هامشية، بل إنه محور استقرار حيوي للأمن القومي العربي، والأفريقي. ولذا فإن المحافظة على وحدته واستعادة دولته ليست مسؤولية السودانيين وحدهم، بل مسؤولية إقليمية، لأن انهياره يعني انهيار معادلات المياه، والملاحة، والأمن، بينما خروجه من الحرب يعني إعادة توازن المنطقة، ووقف سلسلة من الأخطار المتصاعدة.

لا بد من إعادة دمج السودان في محيطه، وتفعيل دوره في التجمعات الإقليمية... نحتاج إلى «تحالف إرادة» من كل من يخاف على مصلحته من انفجار السودان.

فالانفجار لن يكون لدولة عادية يمكن أن تستعاد بعد حرب أهلية، إنما هو انفجار لقارة صغيرة، ولمفتاح استراتيجي إلى الإقليم العربي، وأفريقيا، وآسيا، وقد يتحول المفتاح إلى قنبلة متشظية في وجوه الجميع، فالسودان القارة الصغيرة الذي يوصف بأنه الخزان متعدد الثقافات، والأعراق، والألسنة قد يصبح جسراً خطيراً لتفكيك أهم منطقة حيوية في العالم.