إن ما تحقق من إنجاز في الحكومة الرقمية لم يكن وليد الصدفة، ولا نتاج قرارٍ معزول، بل نتيجة رؤية 2030 التي أعادت تعريف دور الحكومة؛ من جهة خدمية تقليدية إلى منصة ذكية، مرنة، ومتكاملة.. ولهذا؛ فإن المركز الثاني عالميًا ليس سقف الطموح، بل محطة في مسار أطول، تسعى فيه المملكة إلى الريادة لا المنافسة فقط..
لم يعد التقدم في مؤشرات الحكومة الرقمية ترفًا تقنيًا أو إنجازًا دعائيًا، بل بات مقياسًا حقيقيًا لمدى نضج الدول في إدارة مواردها، وثقتها بمواطنيها، وقدرتها على استشراف المستقبل. ومن هذا المنطلق، جاء تحقيق المملكة العربية السعودية للمركز الثاني عالميًا في مؤشر نضج الحكومة الرقمية ليؤكد أن التحول الرقمي السعودي لم يكن سباق سرعة، بل مسار وعيٍ واستدامة.
عندما نتحدث عن الحكومة الرقمية، فنحن لا نعني مجرد تحويل المعاملات الورقية إلى إلكترونية، بل نعني فلسفة حكم جديدة، تقوم على البيانات، وتستثمر في التقنية، وتضع الإنسان في قلب الخدمة. وهنا تحديدًا يكمن سرّ تفوق المملكة؛ إذ لم تنظر إلى الرقمنة بوصفها مشروعًا تقنيًا، بل باعتبارها مشروع دولة.
لقد لعبت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) دورًا محوريًا في هذا التحول، من خلال بناء منظومة متكاملة تشمل السياسات، والتشريعات، والبنية التحتية، والمنصات الوطنية، هذه المنظومة لم تعمل في جزرٍ معزولة، بل ضمن تناغم مؤسسي يعكس نضج الحوكمة الرقمية في المملكة.
أحد أبرز أعمدة هذا النجاح يتمثل في الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، التي وضعت إطارًا طموحًا لاستثمار البيانات بوصفها موردًا وطنيًا لا يقل أهمية عن النفط، ومن رحم هذه الاستراتيجية، وُلدت كيانات ومنصات مثل مكتب إدارة البيانات الوطنية، ومنصة حوكمة البيانات الوطنية، والمنصة الوطنية للبيانات المفتوحة، التي أسست لثقافة مؤسسية جديدة، قوامها الشفافية، وتكامل البيانات، ودعم اتخاذ القرار.
ولا يمكن إغفال دور المركز الوطني للذكاء الاصطناعي، الذي نقل الذكاء الاصطناعي من كونه مفهومًا نخبويًا إلى أداة عملية تُستخدم في تحسين الخدمات الحكومية، ورفع كفاءة الأداء، والتنبؤ بالاحتياجات المستقبلية. هذا التوجه عزز مكانة المملكة في مؤشرات الابتكار، وربط الحكومة الرقمية بالاقتصاد الرقمي، لا بوصفه ترفًا تقنيًا، بل رافعة تنموية.
في المقابل، أدركت المملكة مبكرًا أن التحول الرقمي بلا حماية قد يتحول إلى عبء، فجاء نظام حماية البيانات الشخصية (PDPL) ليؤكد أن الثقة الرقمية هي الأساس، وأن حماية خصوصية الأفراد ليست تنازلًا أمام التقنية، بل شرطٌ لاستدامتها. كما عززت سياسة حرية المعلومات مبدأ الحق في الوصول إلى المعلومة، وربطت الشفافية بالحوكمة الرشيدة.
أما على مستوى الخدمات، فقد شكلت منصات مثل قناة التكامل الحكومية (GSB)، والسحابة الحكومية "ديم"، والتطبيق الوطني الشامل "توكلنا" نماذج عملية على كيف يمكن للتقنية أن تختصر الزمن، وتقلل التكلفة، وترفع جودة الحياة. هذه المنصات لم تُصمم للاستخدام المحلي فحسب، بل أصبحت مرجعًا إقليميًا ودوليًا في تصميم الحلول الحكومية الرقمية.
ويُحسب للمملكة أيضًا أنها لم تُهمل البعد القيمي في سباق التقنية، فأطلقت إطار أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، في رسالة واضحة للعالم أن الابتكار لا ينفصل عن المسؤولية، وأن الإنسان سيبقى معيار النجاح الحقيقي لأي تحول رقمي.
إن ما تحقق لم يكن وليد الصدفة، ولا نتاج قرارٍ معزول، بل نتيجة رؤية السعودية 2030 التي أعادت تعريف دور الحكومة، من جهة خدمية تقليدية إلى منصة ذكية، مرنة، ومتكاملة. ولهذا، فإن المركز الثاني عالميًا ليس سقف الطموح، بل محطة في مسار أطول، تسعى فيه المملكة إلى الريادة لا المنافسة فقط.
في النهاية، يمكن القول إن الحكومة الرقمية السعودية لم تُقس بعدد المنصات، ولا بحجم الاستثمارات التقنية، بل بقدرتها على تحسين حياة الإنسان، وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة، وصناعة نموذج عالمي يُحتذى. وهذا، في جوهره، هو جوهر التفوق.














التعليقات