أول ما أبهرني في لبنان، صباح يوم من عام 1956، ما رأيته وأنا في غرفتي، في بحمدون الضيعة، لسحب «الغطيطة» وهي تتسرب بهدوء لداخلها، وكأنها تريد أن تقول لي «بونجور». لكن عرفت تاليا أن لبنان ليس غطيطة فقط، بل أكثر تعقيدا من ذلك بكثير.

* * *

أمر النائب العام، لشمال لبنان، بفتح تحقيق قضائي حول فيديو قام بتصويره أحد المدرسين، تضمن تلميذات في إحدى مدارس طرابلس، وهن يجبن عن سؤال: «هل يمكن أن تتصوري مع شجرة الميلاد؟»، أجبن بالرفض، كونه يمثل تشبهاً بغير المسلمين! - حسب فهمهن - انتشر الفيديو في كل لبنان، وأثار ضجة كبيرة، بالرغم من صدور الكلام من فتيات صغيرات، ولا يجب أن يعول عليه، حتى قولهن بـ«أنهن مسلمات، ولا يشاركن في أعياد غير المسلمين»، ووصفن المسيحيين بأوصاف نرى عدم إعادة نشرها لما فيها من الإساءة الى الاخوة المسيحيين وننأى بنفسنا عن اعادة ذكرها، وارتفعت هتافات من حولهن مؤيدة مواقفهن، وترديد: «مسلما كنت ومسلما أبقى». صاحبت ذلك تظاهرات ربما قد تشكل تهديدا وجوديا للآخر، الذي يشكل الغالبية، بكل تنوعه الديني والمذهبي، المصون دستوريا، ويتزايد الاشتعال على شبكات التواصل، وتوجيه الاتهامات للمدرس / المصور، لتضمينه المقطع تحريضا ضد أتباع بقية المعتقدات، ولا غرابة، فهو معروف كـ«داعية»، أكثر منه مدرسا، خاصة بعد أن دافع عن مضمون عمله، معتبرا إياه في إطار عملية تعليم الأطفال دينهم، وأن الأمر جاء، حسب وجهة نظره، في سياق شرعي ديني. من الواضح أن الأمر لا يتعلق بشجرة بلاستيكية، في وطن يحمل على كاهله جبالا من المشاكل والمآسي وقضايا الفساد، وكل احتمالات وقوع حرب داخلية وخارجية، في أية لحظة، وانهيار بنيته التحتية، والصحية والتعليمية، بخلاف مشاكل عملته ومصارفه، وشح مياهه، وانقطاع كهربائه، ليستقر على قمة المدن المنهارة، فكيف يتجاهل أهله كل هذه الهموم، والحرائق، وينشغل بحرمة وقوف فتاة في الثامنة من العمر بجانب شركة بلاستيكية، ترمز للكريسماس؟ الأمر حتما أخطر من ذلك بكثير. أنتجت هوليوود عام 1988 فيلم «الإغراء الأخير للمسيح». تضمن إساءة لصورة السيد المسيح، فقامت تظاهرات عدة تحتج على مضمونه، لكنه فشل تجاريا تاليا، وتوقف عرضه. صرح حينها كبير اساقفة إنكلترا بأن المسيحية، التي يقدر عدد أتباعها بأكثر من 2.3 مليار، أو قرابة ثلث سكان الأرض، لا تستحق أن تُتبع إن كان فيلم من الدرجة الثالثة يمكن أن يؤثر في المؤمنين بها. ما ينطبق على ذلك الفيلم ينطبق على الشجرة البلاستيكية، التي أبدى عدد من المتشددين انزعاجهم واعتراضهم على وضعها في بهو بضعة فنادق، مبدين قلقهم غير المبرر، لان الدين الإسلامي دين يتبعه 1.5 مليار مسلم، استمر قويا لأكثر من 1400 سنة، هزم خلالها آلاف الأعداء والغزاة. عايشت شخصيا، منذ الستينيات، هذا الهلع غير المبرر، وكيف قام رئيس حزب ديني حينها بالطلب من عشرات مستأجري محال الملابس في عماراته بإزالة رؤوس المانيكات، المصنوعة من البلاستيك، من نوافذ العرض. وتبعه أصحاب باقي المحال وأصبح الأمر عرفا لسنوات طويلة، واختفت تماما، مع تغير طريقة عرض الملابس، عالميا. كما كان يمنع العزف على البيانو في صالات الفنادق من دون ترخيص كتابي، ويجدد شهريا، على أن ينتهي مفعوله مع نهاية نوفمبر ليصدر ترخيص جديد في شهر ديسمبر لفترة 23 يوما فقط، بغرض منع الفنادق من «عزف البيانو» خلال فترتي الكريسماس ورأس السنةَ!! الغريب أن هذا الامر استمر العمل به لأكثر من نصف قرن، قبل أن يلغى مؤخرا فقط، والفضل يعود للنائب الأول، وزير الداخلية. الأمور تبدو جميلة، لكن «المشوار» طويل.


أحمد الصراف