بشيرة بنت عمر الاعرج اصولها من مدينة زراعية اسمها كفر زيتا السورية ، تقع الي الشمال الغربي من مدينة حماه بحوالي ثمانية و ثلاثين كيلومتر و تشتهر بآنها مدينة زراعية بامتياز، تعرف بكنيتها التي اشتهرت بها في الاردن وهي: أم هاني.

يكفي ذكر لقب “ام هاني “ ليعرف الجميع انها زوجة رئيس وزراء الاردن السابق الدكتور فوزي الملقي ، و ووالدة رئيس وزرآء الاردن الحالي “الدكتور هاني الملقي “. و رغم وجود الاف من النساء ممن يحملن لقب “ام هاني” الا انها الاشهر و الاعز و الاقرب الي نفس كل من عرفها.

اول يوم عرفتها ، اشعرتني بأنها امي و كان ذلك في مدينة الاسكندرية ، منطقة رشدي ، حيث كانت تقطن شقة في عمارة الكويت يملكها امير الكويت الراحل و حاكمها ، عنوانها ٥ شارع القس مخيائيل ابادير المتفرع من شارع سورية.

و كانت الشقة مطلة علي قصر الامير الكويتي الذي يمضي به الاجازة الصيفية . كان هاني الملقي ، رئيس وزراء الاردن الحالي قد انضم الي كلية فيكتوريا ملتحقا بشقيقاته اللاتي يدرسن في كليات الزراعة و الاداب بالاسكندرية. 

هذه العمارة العملاقة كان يسكنها كل من المطربين عبد الحليم حافظ و فريد الاطرش ، ، العائلات الاصيلة المصرية و العريقة ، و كان الطابق به ثمان شقق و ايجار الشقة انذاك اربعين جنيها. (* راتب رئيس الوزراء المصري كان لا يتعدي مئة جنيها انذاك).

اول يوم قابلتها ، استدعت حارس البناية السوداني “ سيف “ و قالت له اذهب و احضر شوكولاته كورونا ذات التغليف الازرق .

و طلبت مني ان اقوم بتركيب بعض قطع من الخشب الباركيه التي خرجت من موقعها علي الارض الي حين ان يآتي “عم سيف البواب و الشوكولاته “، و لا زلت من تلك الساعة اتذكر الخشب الياركيه و كآنها انها ارادت ان تختبر ذكآد طفل و صبره في تركيب قطع من الخشب المعقد ، و ظللنا نتحدث عن تلك التجربة حتي بعد ان تخرجت من كلية الهندسة و عدت الي عمان.

“ام هاني “ شخصية فريدة ، عظيمة ، متحدثة و سياسية ذات بعد استراتيجي و تخطيطي لا يكفيه مساحات واسعه من السرد و التفصيل ، لانها هي المحرك الرئيس و الدافع في وصول فوزي الملقي الي سدة الحكم باعتلاء منصب رئيس الوزراء في الاردن ، و هي الاب و الام و الموجه و الداعم لابنها الوحيد ان يرتقي درجات المناصب الحكومية ليصل الي مرتبة “رئيس الوزراء؛. 

لقد كانت دوما تقول للملك الحسين “ ابنكم هاني “ وهي كلمة السر مثل افتح ياسمسم ، نعم الابن الذي من اول يوم التقيتها قالت لي “ دودي ، من اليوم اصبح لي ابنين ، انت و هاني “ ، و هي من كانت تنادني “دودي “ و هو اسم كنية من ايام كلية فيكتوريا كان يناديني بها اصدقائي في المدرسة.

و من ذلك اليوم و انا اقبل يديها كلما زرتها ، و لم يمر عيدا للام اثناء تواجدي في عمان الا و حملت الورد و ذهبت اليها و جلست معها انهل من معرفتها و استمع الي قصصها و اتحدث اليها من القلب . لقد كانت مشعلا للحنان و الرعاية و الحب و الذكاء المتقد و سرعة البديهه.، و منحتني من وقتها الكثير و الكثير.

و اذكر انها كانت صديقة عمتي يسري طوقان ، يتسرران و يتشاركان حتي في لعبة “البرجيس” فريقا واحدا في مواجهة “ ام النصر” و هي كنية زوجة زكريا الطاهر الذي قاد و مول عملية الانقلاب علي الملك الحسين في الخمسينات و شريكتها “ ام طلال” و هي رسمية ابو العافية شقيقة درويش بك ابو العافية اول وزير للنافعة في بلاد الشام التي كانت تضم الاردن و سوريا و لبنان و فلسطين ، و هو شقيق جدتي لامي و ابي . اذن الفريق الاول كان طوقان الملقي و الثاني مكون من الطاهر ابو العافية.

 البرسيس يتكون من ست ودعات من الصدف و ثمان قطع نحاسية و قماشة مطرزه ، و هي اللعبة التي تجيدها النساء الفلسطينيات و الشاميات و من اشهرها.

“ام هاني “ هي من علمتني تلك اللعبة في فيلا زكريا الطاهر ، و قالت لي في اللهجة الحلبية تسمى هذه اللعبة البرجيس (barcges) ، ولكن في اللهجة الشامية تسمى البرسيس (barsees) ، عليك معرفة اصول الكلمات والعائلات . كان هذا اول درس في الالعاب الاستراتيجية و اللغويات و التاريخ . انها مدرسة متحركة ، مليئة بالحيوية و النشاط و كنزا سياسيا لا ينضب ، تهتم بالجميع.

“ام هاني “ هي من وجهت لنا دعوة غذاء في مدينة الحسين الرياضية للشباب في السبعينيات ، و هي نفس المدينة التي يقام عزآئها فيه الان ، و ذهبت مع عمتي يسري طوقان مؤسسة الاتحاد النسائي و الهلال الاحمر الاردني و الدكتور انور البلبيسي امين عام وزارة الصحة و زوجته مها شقيقة هاني الملقي ( كانت عائلة لبلبيسي تقطن منزلهم في جبل الحسين قبل الانتفال الي منزل بالقرب من شارع مكة )، و شاهدنا مسابقة رياضية للسباحة شارك بها الامير رعد بن زيد بحضور الملك الحسين و الذي جاء مقعدنا خلفه مباشرة . 

و كانت اول مره اكون قريبا من الملك الراحل الحسين الذي كان يرتدي بنطالا و قميص يثني اكمامه القصيره ، تكررت فيما بعد تلك اللقاءات ، ، و كنت سعيدا جدا بجلوسي خلف الملك مباشرة ، و قالت لي “ام هاني” و قد رآت السعادة علي وجهي : “ بعد انتهاء السباحة و تكريم السباحين سلم علي الملك و قدم له نفسك واعلمه انك تدرس في كلية فيكتوريا التي تخرج منها ، و اطلب منه العفو عن “صبحي طوقان “ مرافق الملك طلال ، و المحكوم عليه بالاعدام “ ثم عد الي مقعدك و خبرني ماذا رد الملك.

كان موقفا غريبا ، جديدا و سياسيا لم اعهده ، و توجيها لشاب لم يبلغ بعد الرابعة عشر من العمر في اول لقاء مع ملك ، و هنا انتبهت الي صوتها “ لا تتردد ، قم و ستجد القبول ، انه الملك ، اطلب ماتشاء “. و دفعتني بيدها لا تضيع الفرصة انت ذكي و شاطر و لبق . 

كلماتها حفزتني ووضعت في اعماقي شجاعة الطلب و الحضور . و فعلا تم و صافحت الملك و قدمت له نفسي ، و ابلغته الرسالة و عدت الي مقعدي حيث اخبرتها : سلام الملك به من الطاقة و الامل ما يدفعني بمزيد من الحب له و للاردن ، و قال لي :” مرحبا بصبحي طوقان في كل وقت ، اعرفه جيدا و الوطن وطنه لا حكم عليه ، عفو و صفح “. اذن “ام هاني “ تعرف الاوقات المناسبة و تخطط و تنشيء و تساعد الاخرين ، و لها من العقل الحكيم اكثر مما يعتقد الساسة. 

كان لديها مفاتيح للابواب الموصدة و عقل لا يوصف، لذا ليس عجبا انها من اسباب وصول زوجها و ابنها الي منصب رئيس الوزراء وقدمت لهما ورقة اختراق كافة الحواجز و المتاريس.

“ام هاني “ هي اول من تابع برامجي المتلفزة علي الهواء في تلفزيون الاردن ، كانت معي في كل حلقة ، تناقشني و تراجعني و تشجعني ، و اشعرتني بمسؤولية حين قالت لي “ اخصص يوم برنامجك لمشاهدتك و متابعة ما تقول ، استمر و لا تهاب او تخاف.” 

“ام هاني” هي من صرخت من نافذة شرفتها ، عندما كانت تقطن امام مبني رئاسة الوزارة في الدوار الرابع من مدينة عمان ، عندما شاهدتني و عصا الامن تدك ظهري بعد ان اوقفت سيارتي و نزلت لتلبية دعوة غذآء عندها ، صرخت عل الامن و هراوته “ اتركوه ، دودي وطني يحب الملك “ ، و صرخت علي ابنها هاني من الشرفة و الذي كان يقف في حديقة منزله يتابع مظاهرات تنادي بتوظيف حملة شهادات الدكتوراه من الدول الاشتراكية ، يا هاني “ الحق دودي الوطني تضربه الشرطة ، يا عيب الشوم عليهم يا هاني “ ، فانقذني هاني بعد ان قال لوالدته العظيمة :” ماما ادخلي من الشرفة ، خلص “. و دخلت الي منزل الدكتور هاني الملقي و شكرتها و قبلت يديها كعادتي ، و جلست معها اتناول الغذاء ، و ضحكنا علي ما حدث.

“ ام هاني “ هي من تابعت حياتي ، و دوما تسآل عني ، فقد كانت اما افتقدها ، و كانت مثالا لا يعوض في الرحمة و الحب و العطف و المودة، شاركتها التفاصيل و نصحتني و استمعت الي نصائحها .

 

“ ام هاني “ ما ان علمت بحكم عملي من خلال تصوير و بث برنامج متلفز علي الهواء مع وزير الاعلام الاسبق الذي اسر بعد البرنامج و المايكروفانات مفتوحة ان ست وزراء راحلين من حكومة الدكتور عبد السلام المجالي ، و سيتم تغييرهم و ذكر منهم “هاني الملقي” ، عرجت علي منزلها الساعة الحادية عشر ليلا و قلت لها ما حدث ، فاجرت اتصالاتها و ابقت علي ابنها وزيرا في الحكومة ، فقد كانت صاحبة كلمة مسموعة لدي رؤساء الحكومات و في القصر و تحديدا مع الامير زيد بن شاكر. و هي نفس القصة التي تكررت عند شغور منصب سفير الاردن في مصر ، حيث ذهبت اليها و اخبرتها ان من افضل من يكون سفيرا هو الدكتور هاني و قد كان .

 

 “ ام هاني “ ليست سيدة عادية او اما حملت و وولدت ، انها مدرسة و جبهة داعمة للنجاح بكل تفاصيلها، و شجرة تظلل كل من حولها.

 

“ ام هاني “ هي من رافقت زوجها رئيس الوزراء الاردني الدكتور فوزي الملقي وقت ان كان سفيرا في القاهرة و معهم المرافق الخاص للملك طلال صبحي طوقان ، و ذهب الجميع معا ، الملك طلال و الملكة زين و الامير الحسين لادخال الامير الصغير الي كلية فيكتوريا . و “ ام هاني “ هي من كانت ترعي الملك الحسين عندما كان زوجها سفيرا في القاهرة و الامير في كلية فيكتوريا ، في لندن و الملك الحسين في ساند هرست . و ليس سرا ان يسري طوقان و بشيرة الملقي و فاطمة خليفة و ام درويش الشركس هم من الصديقات المقربات للمملكة زين الشرف رحمة الله علي الجميع.

 

“ام هاني” هي من شجعت ابنها في احد اشهر الصيف ان يفتح محلا صغيرا ٬مؤقتا في مصيف “المعمورة “ و هي بداية زرع مبدء التجارة و عقلية الاستثمار لدي الابن الشاب.

 

“ام هاني” هي من اصطحبتني و ابنها هاني و ذهبنا الي سينما صيفية مكشوفة في الاسكندرية في منطقة ميامي ، امام نادي الصيد حيث كان يلعب الملك فاروق البريدج مع والدة الممثل المصري خريج كلية فيكتويا عمر الشريف ، و اشترت لنا “ايس كريم “ و بوظة” . في كل مرحلة من الحياة كانت لها بصمات و كنت اشعر أنها امي .

 

“ام هاني “ من دعتنا الي سندوتشات فول و فلافل خلف فندق سان استفانوا ، و كان احد افكارها التجارية .

 

اقصد ان “ام هاني “ كانت معنا في حياتنا و تحركاتنا و في كل حياتها ، تعلمت منها و احببتها اما غالية ، فقد كانت في قاموس الحياة تعني “ ان مشاكل الحياة بسيطة لها حلول دائمة ، عليك المثابرة و الاستمرار “.

 

“ ام هاني “ هي من قالت لي اكتب بجرآة و انتقد و لا تنافق ، وقت ان استدعاني الدكتور هاني الملقي الي منزله و هو في حكومة الدكتور معروف البخيت ليطلب مني عدم نقد حكومة “البخيت “ ، و هو الموقف الذي تكرر مع الدكتور عبد الاله الخطيب وزير الخارجية عندما استدعاني الي مكتبه و طلب مني عدم نقد حكومة المهندس علي ابو الراغب ، و في كلتي الحالتين لم ارضخ و كتبت و كان الفضل الكبير “ ام هاني “ . نعم فقد حمستني و امدتني بالروح المعنوية و الشجاعة و قالت لي :” الملك واسع الصدر ، يحب من شعبه الرجال الصادقين ، اكتب و لا تخشي احد الملك معك و مع الحق دوما “.و فعلا كان ولتلك قصة في موقع اخر ، الكتابة بحماية و رعاية ملكية .

 

اليوم ترحل “ام هاني” التي رآيتها في منزل الدكتور هاني الملقي علي كرسي متحرك منذ عامين و نيف ، و صوتها قويا متحدي الزمن و المرض ، و رايتها مؤخرا في مستشفي عمان الجراحي و عيناها مغلقة و قلبي يقطر دمعا و حزنا علي ام رائعة و حجر غال من احجار الوطن الاردني . غادرت عمان في نهاية عام ٢٠١٦، ركبت الطائرة و كنت علي علم انها المرة الاخيرة التي اراها و لا تحدثني . رحمة الله عليك “ام هاني” 

 

وداعا ..وداعا من القلب يا امي الحبيبة.

 

 انها قصة نجاح امرآة قوية ، اتمني تحقق وصيتها لابنها في ايامه القادمة